Mar 01, 2022
بين "انتهازية" النظام الزبائني و"عدائيته"... آفاق المجتمع المدني في لبنان
زياد عبد الصمد
المدير التنفيذي لشبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية

الرجاء الضغط هنا لنبذة والمنشورات
زياد عبد الصمد

بين "انتهازية" النظام الزبائني و"عدائيته"... آفاق المجتمع المدني في لبنان ‪-‬ زياد عبد الصمد 


في الآونة الأخيرة، صار المجتمع المدني لاعباً أساسياً وفاعلاً في المشهد السياسي اللبناني العام، إلا أن التفاوت في مقاربة مفهومه يسبب لغطاً في التوقعات، وبالتالي في الأدوار المتوقعة منه في عملية التغيير المنشودة، لا سيما بعد تسارع الانهيار وتفاقم الأزمات.



ولتصويب النقاش، لا بدّ من اعتماد مقاربة تعتبر المجتمع المدني فضاءً يتكون من أطر وشبكات ومؤسسات تأخذ أشكالاً تنظيمية وهيكليات متعددة وتلعب أدواراً مختلفة، منها ما هو متخصص بشأن محدد أو بالدفاع عن فئة اجتماعية معيّنة ومنها ما هو عامّ. ولتحقيق أهدافها، تلجأ هذه المؤسسات إلى أساليب متنوعة تتراوح بين توفير الخدمات للمحتاجين والانخراط في برامج للتنمية المحلية المستدامة والدفاع عن حقوق الإنسان، وصولاً إلى المرافعة والضغط والتأثير في السياسات العامة والقوانين لتحقيق العدالة الاجتماعية. ومجال عمل هذه المكوّنات يتحدد نظرياً بثلاثة محددات أساسية: فمن جهة، هناك الدولة ومؤسساتها؛ ومن جهة ثانية هناك آليات اقتصاد السوق ومؤسسات قطاع الأعمال؛ ومن جهة ثالثة تقع العلاقات والروابط التقليدية من دينية وعشائرية وأسرية.



وفي هذا الفضاء، هناك مَن هم أقرب إلى الدولة وأحياناً يتعاونون معها فيأخذ التعاون أشكالاً مختلفة، بما فيها الشراكة والتعاقد. وهناك مَن هم أقرب إلى السوق ويتعاونون مع أدواته. وأخيراً، هناك المؤسسات التي تقترب من العلاقات التقليدية لا سيما المنظمات والجمعيات الدينية وهذه يمكن تسميتها "المجتمع الأهلي".



المفهوم "الاستخدامي"


إذن، تتفاوت المقاربات التي تتناول المجتمع المدني، بحسب الرؤية والأهداف وأدوات العمل، ويؤدي ذلك إلى سوء استخدام المفهوم. فمثلاً، بالنسبة إلى الطبقة السياسية في السلطة أو القريبة منها، هو أداة من الأدوات التي تستخدمها لإحكام سيطرتها على المجتمع من خلال تقديم الخدمات وتوفير بعض الاحتياجات، وبالتالي هو ليس أكثر من وسيط يحصل على التمويل من الجهات المانحة التي تودّ توفير العون للمواطنين ويقوم بتوزيعها على المحازبين أو الأقارب.



وبينما تُعتبر هذه الخدمات حقاً من حقوق المواطنين الأساسية كالتعليم والطبابة ومختلف أنواع المساعدات الرعائية المفترض أن توفرها الدولة أو أن تضمن توفيرها، يعمل النظام الزبائني على تعطيل آليات تنفيذ هذه الحقوق ليحافظ أركان النظام على سيطرتهم من خلال استغلال الحاجة عند الناس وتكريس العلاقة الزبائنية وبالتالي تعزيز النفوذ والهيمنة.



فكل زعيم طائفة من الزعماء النافذين يمتلك أو يشرف على عمل عدد من المنظمات التي تركز نشاطاتها في منطقة معيّنة أو تتوجه لطائفة محددة، خدمةً للزعيم ومَن يدور في فلكه من المحسوبين عليه انتخابياً أو سياسياً. هذا المفهوم هو "استخدامي" (أداتي، نفعي) ويؤدي إلى انقلاب كامل في دور منظمات المجتمع المدني من تحرير المواطن إلى تكريس التبعية للزعامات.



تعتبر الأدبيات الحديثة أن الشراكة التنموية بين مختلف الفاعلين التنمويين، لا سيما بين الدولة والقطاع العام والأجهزة التنفيذية والقطاع الخاص والمجتمع المدني، تساهم في تنمية وتطوير المجتمع وتحقيق الأهداف التنموية في حال قامت على مبادئ حقوق الإنسان وأسس الشفافية والمساءلة والمحاسبة. أما المال العام المتوفر فيُفترض فيه أن يُخصَّص للمنفعة العامة، إلا أنه غالباً ما يُنفق من خلال العلاقات التعاقدية التي تقيمها السلطات التنفيذية المعنية بشكل انتقائي وعلى أساس المحاصصة بين أصحاب النفوذ السياسي، مناطقياً وطائفياً، ما يعزز العلاقات الزبائنية بين الزعماء والناس.



تطوّر جديد


حالياً، نشهد تطوراً في دور المجتمع المدني الذي انتقل من العمل الفردي (منظمات مدنية وغير حكومية وشبكات) في مجال المدافعة والمناصرة والدفاع عن حقوق ومصالح المواطنين أو فئات محددة، إلى الانتظام في حركات اجتماعية، من خلال أطر ومؤسسات أقل تنظيماً ولكن أكثر عدداً وقوة. وقد تحولت هذه الظاهرة منذ انتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 إلى حركة شعبية واسعة وعفوية أو منظمة جزئياً وسلمية غير مسبوقة.



لكن المنظومة المتمسّكة بالسلطة والتي تتهم القوى التغييرية بأنها تتعامل مع قوى خارجية وتحمل "أجنداتها"، لجأت إلى المراوغة، ما زاد الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية مأساوية، وارتفع منسوب التوتر الأمني.



وبتنا نشهد في المرحلة الراهنة تطوراً لافتاً تنتقل معه المنظمات المدنية إلى العمل السياسي المباشر من خلال الأحزاب الناشئة. وعلى الرغم من نقص التجربة وأحياناً كثيرة غياب الرؤية والأدوات الضرورية لاستقطاب المواطنين، فإن هذه الأحزاب الناشئة تتهيأ لخوض غمار الانتخابات والوصول إلى السلطة بالطرق الديمقراطية، حاملة معها مشروعها التغييري الذي يقوم على مبادئ الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان ودولة القانون.



تتميز هذه الحالة باستقلاليتها عن أركان المنظومة، إذ تعمل بمعزل عن كل الولاءات والعصبيات، لذلك تتعرض لشتى أنواع الضغوط وتشويه السمعة لا سيما مالياً وأخلاقياً. وفي المقابل، تتوحد القوى التقليدية وأركان المنظومة في عدائها للمنظمات المستقلة، ليس فقط لأنها توفر خدمات أساسية في معظم المناطق، ما يساعد المواطنين على التحرر من هيمنة هذا الزعيم أو ذاك، بل لأنها تلعب أيضاً دوراً في توعية وتمكين المواطنين وفي بلورة رؤية سياسية أوضح تجاه العلاقات الزبائنية مع المجتمع بشكل عام والمجتمع المدني على وجه الخصوص.



مصدران للتمويل


تصاعدت في الآونة الأخيرة الانتقادات اللاذعة والاتهامات التي تتناول المجتمع المدني من قبل زعماء الصف الأول ووسائل الإعلام التابعة لهم، تحديداً لأن الجهات المانحة، بعد انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب/ أغسطس 2020، فقدت ثقتها بالمنظومة وحمّلتها مسؤولية الانهيارات والتلكؤ في تنفيذ الإصلاحات الضرورية للخروج من الازمة، وقررت توجيه مساعداتها من خلال المنظمات التطوعية المستقلة عن الأحزاب، لأن هذه المنظمات ترفع الصوت عالياً بوجه الانتهاكات التي تطال التحقيقات في الجريمة والممارسات التي يقوم بها أركان المنظومة لمواجهة الاتجاهات التغييرية التي تطالب بالعدالة والسيادة والعيش بكرامة، مع كل تداعيات الأزمة التي نتجت عن الفساد والخيارات الخاطئة التي اتخذها أركان المنظومة على مدى العقود الماضية.



وعند الحديث عن التمويل الخارجي الذي يتم تناوله من قبل عدد من الجهات السياسية والحزبية بشكل مشوّه، لا بد من التنويه إلى مصدرين للتمويل: المصدر الأول هو المساعدات الرسمية للتنمية التي تأتي من الدول الصناعية انسجاماً مع قرار اتُّخذ على مستوى الأمم المتحدة كجزء من الالتزام بتوفير العون للدول النامية لتتمكن من تحقيق الأهداف التنموية، ويتضمن القرار تخصيص 0.7% من الدخل القومي في الدول الصناعية للمساعدات الدولية، وقد التزمت به منظمة التعاون الاقتصادي عام 1969، وبالتالي فإن المساعدات هي حق من حقوق الدول النامية، وتصل من خلال العلاقة المباشرة بين الحكومات أو من خلال المجتمع المدني.



أما المصدر الثاني، فهو الاغتراب اللبناني الذي هاجر نتيجة انسداد آفاق العمل في لبنان، مع إحكام المنظومة سيطرتها على المفاصل الأساسية للحياة السياسية والاقتصادية وتعزيزها الزبائنية والفساد والاحتكارات، لذا يعتبر المغتربون اللبنانيون أنفسهم جزءاً من الصراع مع هذه المنظومة التي هجّرتهم فجندوا أموالاً لمساعدة قوى التغيير في صراعها مع السلطة.



وتكمن إشكالية التمويل في القدرة على تجاوز الاعتبارات السياسية والاستخدام المشروط للمساعدات. فكما يعمل أركان المنظومة على اعتماد الزبائنية في تمويل المشاريع والمساعدات، تعتمد الدول المانحة أسلوباً شبيهاً ولكن على مستوى أرفع. من هنا، انطلقت عام 2003 مبادرة حول فاعلية المساعدات، ترفض المشروطية السياسية للمعونات وتضع مبادئ عامة أبرزها الشفافية والشراكة والتملك الوطني والمساءلة المتبادلة وغيرها من الأدوات التي تطور أداء الجهات المانحة والمستفيدة في آن.



واعتمد المجتمع المدني عام 2007 في إسطنبول وثيقة تتضمن ما يُعرف بمبادئ إسطنبول لفاعلية المساعدات، تتضمن معاييرَ للحوكمة والشفافية والمساءلة وغيرها من الأدوات التي تضمن الالتزام بحسن استخدام المعونات المخصصة للدول النامية.



لذلك، فإن العيب ليس بتلقي المساعدات التي تُعتبر حقاً، إنما في غياب الشفافية في استخدامها تماماً كما يفعل أركان النظام الزبائني، والعيب هو في الخضوع لأجندات المانحين وأولوياتهم. أما الحصول على التمويل من قبل مانحين بناء على خطط معدة بطرق شفافة وتشاركية وتعكس الأولويات الوطنية، فهو أمر طبيعي وجزء من العملية التنموية.



ثمة تحدٍّ كبير يواجه منظمات المجتمع المدني راهناً، وهو تنامي الحاجة إلى دور سياسي في ظل فراغ سياسي ونقابي كبير، وكذلك تعدد وتنوع أشكال الانتظام المجتمعي إلى حد التشتت في بيئة لا تساعد كثيراً على التوحد والاندماج، وإنْ على الصعيد البرنامجي على الأقل.



ومن الناحية العملية، تنشأ إشكالية عملية تتعلق بكيفية التوفيق بين الجمعيات والمنظمات المُمأسسة وطرق عملها وسقوف برامجها، وبين الحركات والمجموعات الجديدة الأقرب إلى العمل السياسي، والحركات التي لها طابع شعبي وجماهيري واسع. ولا توجد لدينا أجوبة مكتملة على هذه الإشكاليات.


 زياد عبد الصمد 

احدث المنشورات
Nov 20, 2024
منطقة مشتعلة - العدد ٥٥
Nov 19, 2024
منطقة مشتعلة - العدد ٥٤