اديب نعمه
مدخل
لبنان في أزمة شاملة وهيكلية تفرض الانتقال من الحالة الراهنة للدولة الغنائمية الى حالة جديدة تجد تجسيدها في الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة التي تتبنى سياسات تنموية قائمة على العدالة الاجتماعية وحقوق الانسان. نختصر بهذه الكلمات الوجهة التي يجب الوصول اليها مع الاعتراف بانها عملية طويلة ومتعرجة وصعبة في آن، تتطلب احداث تحولات جوهرية في علاقات القوة داخل المجتمع وآليات انتاج مؤسسات السلطة، وطبيعة السياسات الواجب اعتمادها. وفي ظل هذه الازمة، يتعذر الفصل بين الابعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية/المناخية، الامر الذي يضع المجتمع المدني الساعي الى دور تحويلي – كما هو عليه الحال في المقاربة التنموية/الحقوقية، امام مهام لها طابع سياسي بالمعنى الواسع للكلمة. وهذا الدور الذي برز بقوة بما هو دور عملي وراهن مع الحركة الشعبية في الشارع في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، ولا يزال مطروحا. لذلك يواجه هذا المكون من المجتمع المدني تحدي قيامه بهذا الدور، ووضع الاستراتيجية المناسبة لذلك في ضوء ما نعرفه من تعدد الفاعلين "الخارجيين والداخليين"، والتباين الكبير في القوة والتأثير بينهم.
الخارج والداخل
في اللحظة الراهنة الدولة والمؤسسات في لبنان تقترب من وضعية العطل الدائم: لا رئيس للجمهورية، حكومة مستقيلة تصرف الاعمال، قضاء معطل، نظام مصرفي مفلس ولا يعترف بذلك، وضع معيشي متدهور على نحو غير مسبوق، خدمات اساسية غير متاحة وبكلفة عالية جدا...الخ. يترافق ذلك مع توازن غير مستقر لميزان القوى والمواقف داخل مجلس النواب بفعل الانتخابات الأخيرة اخرجه من حالة الهيمنة المنفردة للتحالف السلطوي ومن التحكم المنفرد والمفرط لرئيس المجلس. في المقابل فإن الحراك الشعبي (2019) فقد زخمه ووحدته العامة، وهو على درجة كبيرة من التشتت والتحول الى المطالبات الجزئية والفئوية التي تضعف قدرته على التأثير على مسار الازمة ومتطلبات الخروج منها.
في هذه الوضعية تتزايد فاعلية العوامل الخارجية (الإقليمية – الدولية) في المسار الداخلي، لاسيما في ما يتعلق بتفعيل النظام السياسي من منظور مكوناته نفسها. ووصل الامر – كما يمكن رصده من خلال الديبلوماسية الدولية والإقليمية، ومن خلال تعامل الصحافة ووسائل الاعلام – الى ما يشبه الاستسلام الدائم للتدخلات الخارجية في ادق تفاصيل الازمة المؤسسية (تعبيرها الأبرز انتخاب رئيس، ثم تشكل حكومة جديدة). فقد بات امرا عاديا جدا ومقبولا من معظم الأطراف ان يكون هناك مبادرة فرنسية مثلا تدعو بشكل مباشر الى انتخاب مرشح معين (هو سليمان فرنجية مرشح حزب الله – أمل)، أو أن تتوقع أطراف أخرى، لا بل ان تستجدي موقفا إقليميا سعوديا – عربيا بالتحديد لموازنة الموقف الإقليمي الإيراني – الفرنسي – حزب الله بدعم المرشح فرنجية. فيما تسعى قوى معارضة تقليدية وغير تقليدية الى "لبننة" ولو شكلية للاستحقاق من خلال ترشيح مضاد.
وتتجدد المراهنات على تبدلات إقليمية (ودولية استطرادا) في محاولة لوضع حد للهيمنة الأحادية لاحد مكوني السلطة (ما كان مثل تحالف 8 آذار) بعد خروج رئيس الحكومة السابقة من المعادلة الراهنة، واضعاف موقع المكون الثاني الشريك في السلطة. وبهذا المعنى كانت هناك توقعات لما سيخرج من القمة العربية في جدة، لاسيما بعد التقارب السعودي – الإيراني وعودة سوريا الى الجامعة العربية. وتباينت التوقعات في طبيعة الصفقة – التسوية الإقليمية بين ان تميل لصالح تثبيت دور إيران في لبنان، وبين من يرى تراجعا لهذا الدور لصالح دور سعودي – عربي. الا ان بيان القمة العربية لم يخرج كثيرا عن السياق السابق من حيث التأكيد على دعم لبنان الدولة وضرورة تفردها بالحكم الفعلي بالبلاد، ولكن دون أي إجراءات عملية. ويعود ذلك لكون لبنان لم يكن موضوعا له أولوية لحظية في التسوية بين السعودية وإيران، لا بل هو سيأتي في مرحلة لاحقة (وان ليس ببعيدة ربما) الأمر الذي سيبقي على التوازن الحالي في لبنان ولو الى حين، الامر الذي يسعر الصراع الداخلي بين الأطراف على حسم بعض الأمور لمن يستطيع.
ثمة نقطة أخرى لا بد من لحظها في هذا السياق السائد من الاستسلام للخارج. فالمعادلات الداخلية في لبنان – وفي المستوى الوطني عموما – لا تنحكم بالعوامل والدينامية المهيمنة في المستوى الدولي او الإقليمي بشكل حصري، او يمكن ان لا تكون هي الحاسمة بالدرجة نفسها بما يمحي أثر ميزان القوى الداخلي. فعلى الرغم من طغيان العوامل الخارجية سوف يكون هناك دور أساسي للعوامل الداخلية في اكثر من اتجاه: من يميل ميزان القوى الداخلي لصالحه سوف يسعى الى الحسم مستفيدا من هذه الاستقلالية النسبية للمستويات، ومن المدى الزمني الفاصل بين التفاهمات الإقليمية والدولية؛ والطرف الأقل قوة، سوف يعمل على استغلال دقة اللحظة الراهنة وضرورة اجراء الاستحقاقات الدستورية من اجل توسيع قاعدة التلاقي – ولو الجزئي او المؤقت – من اجل تعزيز قدرته على تعطيل مسار تثبيت ميزان القوى في الوقت الضائع بين وصول التسويات الإقليمية والدولية الى مبتغاها – أيا كان هذا المبتغى. وهذا ما شهدناه في مشهد الصراع بين مكونات السلطة (وهو صراع حقيقي وله أهمية وتأثير على مستقبل البلاد وعلى مسار الخروج من الازمة).
موقع المجتمع المدني
ما هو موقع المجتمع المدني – مكونه التحويلي على وجه التحديد – في هذا الوضع؟ بالتأكيد ان هيمنة العوامل الخارجية وتغليبها على العوامل الداخلية يؤدي الى تهميش دور المجتمع المدني ويتطلب منه موقفا أكثر راديكالية في مواجهة ذلك، وهو مهمة سياسية وطنية بامتياز. من جهة ثانية فإن تعطيل المؤسسات وانحلال الدولة يشكل بدروه عاملا إضافيا يهمش دور المجتمع المدني او يجعل مهمته أكثر صعوبة. فالمجتمع المدني يتحدد بكونه طرفا مغايرا للدولة – السلطة ومغايرا للسوق ومؤسساته أيضا. ومع تعطل الدولة والمؤسسات، ومع تعطل احترام القانون بدءً من الدستور وصولا الى القوانين الأخرى والقضاء، بما في ذلك من قبل القطاع الخاص المهيمن على الاقتصاد، سيجد المجتمع المدني التحويلي نفسه امام وضع ضبابي وخصوم متعددين ومنتشرين في مختلف نواحي الحياة المجتمعية دون مرجعية قانونية تضبط سلوكهم. وهو ما يدفعه أيضا الى موقف – موقع أكثر راديكالية في مواجهة هذا التحلل.
نقطة أخرى يجب التوقف عندها، وهي ان الصراع بين مكونات السلطة نفسها، والتناقض او الاختلاف بين المشاريع الدولية – الإقليمية الحقيقي، يقف عند حدود السماح لفاعلين جدد من خارج المنظومة بالتحول الى عامل مؤثر في المسار السياسي والمؤسسي. وينطبق ذلك على محاصرة أي اختراقات مدنية او سياسية تغييرية في المؤسسات (مثلا النواب الجدد المستندون الى حراك 17 تشرين)، او خارج المؤسسات: وهذا هو الركن الأساسي المشترك في استراتيجيات مختلف مكونات السلطة. لقد حصل اختلال وانقسام في السلطة والنظام عندما تحرك المجتمع المدني بصيغة حركة شعبية احتجاجية واسعة في الشارع، عندها تحول الناس الى فاعل سياسي أحدث تغييرا ما. وقد تقاطعت استراتيجيات مختلف الأطراف التقليدية في استراتيجيتين متكاملتين الأولى هي محاولة ركوب الحراك الشعبي واستخدامه لصالحهم؛ والثانية هي اخراج الناس من الشارع لتعطيل فعاليتهم السياسية بمختلف الطرق (القمع المباشرة، استخدام كورونا، تفاقم الازمة المعيشية، تقسيم الحراك وخلق تناقضات بينها، اتهام بالارتباطات لصالح اجندات خارجية). ويجب الاعتراف ان الاستراتيجية الثانية حققت نجاحا، وهو ما مهد الطريق امام استعادة زمام المبادرة امام الأطراف السلطوية لاحتكار الفعالية السياسية، والهيمنة على الفضاء العام لاسيما من خلال الاعلام المنحاز كليا لصالح هذا الطرف او ذاك، والتصرف الصريح – مع بعض التفاوت – على انهم امتدادات للمشاريع الإقليمية الدولة او يستقوون بها. وهم يتصرفون كما لو ان القوى المجتمعية وقوى المجتمع المدني أصبحت خارج اللعبة تماما.
مهام المجتمع المدني
المهام والوظائف المطروحة امام المجتمع المدني هي مهام اخراج لبنان من عنق الزجاجة والازمة والتوجه نحو بدائل تمثل حلولا مستدامة تمنع تكرار الازمات السابقة والحالية قدر الإمكان. وهذا يعني مرة أخرى مهاما من طبيعة سياسية يجب عدم التلكؤ عن تبنيها والتصدي لها. يتطلب الخروج من النفق المظلم للأزمة اللبنانية تحقيق مهام مركبة تشمل أربعة مستويات:
1. استعادة القرار الى داخل لبنان: فقرار لبنان مصادر لصالح أطراف خارجية، بعضها أكثر تأثيرا وقدرة وتدخلا، والمطلوب ان تكون الغلبة للعوامل الوطنية انطلاقا من المصالح الوطنية للبنان، لا ان تحمل الأطراف مشاريع ظاهرها داخلي هي امتداد للمشاريع الإقليمية او الدولية واداة له. وهذا شأن يتعلق مباشرة بالسيادة الوطنية في بعدها الخارجي.
2. استعادة القرار الى داخل المؤسسات: السلطة في لبنان خارج المؤسسات. انها بيد أحزاب وزعامات سياسية تمسك بالقرار الفعلي (بعضها على نطاق لبنان وبعضها اقل أهمية على نطاق محلي)، في ان السلطة التنفيذية خصوصا، لا سلطة فيها بل هي واجهات مؤسسية وقانونية من اجل اخراج القرارات التي تتخذ خارجها. ولا بد هنا من استعادة القرار والسلطة الى داخل المؤسسات الدستورية، وان تعمل هذه المؤسسات وفق مقتضيات الدستور والقوانين، لا ان تخرج كليا علها كما هي الحال راهنا. الحاجة هنا الى دولة الحق والقانون، بدل الدولة الخارجة على القانون.
3. تجديد المؤسسات: الا ان ذلك لا بد ان يجري وفق آليات ديمقراطية وتمثيلية وتعكس الواقع الجديد بعد 17 تشرين، وتلتزم بالمعايير الدولية لصحة التمثيل. ولا يمكن الاستمرار بالقبول الشكلي مثلا بانتخابات هي ليست بانتخابات تتم على أساس قانون غير دستوري، ومفصل مسبقا على مقاس أطراف السلطة، وفي شروط واقعية لا تضمن حرية الاختيار للمواطنين، ثم التذرع بذلك بمن قبل الأطراف الخارجية وأطراف السلطة بأن هذا خيار اللبنانيين. هذا الموقف كان أساس اندلاع الحرب الاهلية عام 1975، وهو أساس استمرار الازمة وتعطيل إمكانية الإصلاح من داخل المؤسسات. ان الشروط والمواصفات التي تتم فيها عملية تجديد المؤسسات هي شرط مؤسس للخروج من الازمة لا يمكن التغاضي عنه.
4. سياسات اقتصادية واجتماعية بديلة: الازمة لها بعدها الاقتصادي والاجتماعي العميق، ولا تكفي فكرة المواطنية وسيادة القانون لحل الازمة. لا بد ان أيضا من تحديد الوجهات الرئيسية لمضمون السياسات التي يجب أن تتبناها المؤسسات الدستورية وآلياتها للخروج من الازمة. وهذا يعني انه لا يمكن التضحية بأي من المكونات الرئيسية للحل او تأجيله والتركيز الأحادي على أحد الابعاد واهمال الأخرى. فما يسمى استعادة السيادة لا يحل الازمة المصرفية والاقتصادية والاجتماعية؛ كما ان الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي غير ممكن ما لم يكن مقترنا مع اصلاح سياسي ومؤسسي.
ما العمل؟
لا خروج من الازمة والنجاح في التوصل الى بدائل دون حوار مجتمعي حقيقي. فالبدائل معروفة الوجهة، كما ان مبادئها العامة لا بد ان تكون مستوحاة من منظومة حقوق الانسان ومفهوم التنمية، لكن صياغتها الملموسة القابلة للتنفيذ يجب ان تتم من خلال حوار مجتمعي يكون للمجتمع المدني فيها دور أساسي ومتكافئ مع الأطراف الأخرى.
الا ان فكرة الحوار تعترضها صعوبتان يجب ان تحلا مسبقا:
- الصعوبة الأولى، من هي الجهة الموثوق بها التي يمكن ان تدير مثل هذا الحوار الاجتماعي؟
- الصعوبة الثانية، في ظل ميزان القوى الحالي، ومع هيمنة منطقة القوة على قوة المنطقة، ومع وجود السلاح خارج الدولة كعامل حاضر دائما على الطاولة، هل يمكن ان يكون هناك حوار حقيقي مع ضمانات بالالتزام بنتائجه بين أطراف متكافئة؟
المجتمع المدني، معبرا عنه بالحركات والنقابات والجمعيات والشبكات، يفترض ان لا تكون له اجندة خاصة به خارج اجندة الناس في موازنة السلطة السياسية والاقتصادية والفئوية. أي ان اجندته الفعلية يجب ان تكون اجندة الخروج من الازمة والانتقال الى الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة التي تتبنى منظومة الحقوق والتنمية. فإذا كان ترجمة هذه الاجندة هي – من ضمن أمور أخرى – في هذه الأهداف الكبرى الأربعة المعروضة أعلاه، فهل بإمكانه التنكر لها والاكتفاء فقط بالعمل الإنساني او القطاعي او التعويضي عن قصور الدولة ومؤسساتها؟
انها مهام صعبة؛ والجواب عليها من قبل المجتمع المدني لا يقل صعوبة.
اديب نعمه