May 16, 2025
الصندوق متلون خطابيا متحجر أيديولوجيا - سلمى حسين
سلمى حسين
الرجاء الضغط هنا لنبذة والمنشورات

الصندوق متلون خطابيا متحجر أيديولوجيا - سلمى حسين

 

في لبنان وفي مصر وفي كل أنحاء العالم، الحس الشعبي أصدق. في عام 2012، ثم في عام 2013، حين احتشدت الجماهير المصرية في الشوارع، واعترضت أحزاب وجمعيات أهلية ونخب سياسية وثقافية ضد اتفاقية مع صندوق النقد الدولي، لم تكن الجماهير ولا تلك النخب تعرف تفاصيل الاتفاق. قد يقول قائل إنه اعتراض من أجل الاعتراض، ولكن..

 

تبدى فيما بعد أن الاعتراض كان حدسا سليما مبنيا على خبرات دولية ومحلية سابقة تعلمت من خلالها الشعوب أن الصندوق لا يأتي من ورائه خير. فعلى مدار العقد السابق وعلى اتساع النطاق الجغرافي، واختلاف الظروف المحلية لكل دولة، كانت النتائج متشابهة.. أهمها وأولها أن لا قصص نجاح في الإقليم.

 

في مصر، في عام 2015، ظنت الدولة أنها توصلت إلى المعادلة الصائبة. جاءت مديرة صندوق النقد وقتها كريستين لاغارد، كانت الجماهير قد صودرت حركاتها واعتقل الكثير من قادتها. وبدا الوقت سانحا للصندوق أن يقوم بعملية إغراء للحكومة، التي تعاني هروبا لرؤوس الأموال. استهلت لاغارد خطابها المؤثر بأبيات شعر غنتها أم كلثوم. وظل التفاوض سنة كاملة، ضغط فيها الصندوق وأصحاب المصالح على الحكومة كي تقترض من الصندوق ومن غيره.

 

قال خبراء الصندوق كل الكلمات المفتاحية الصحيحة: تغيرنا، البرنامج محلي لا مفروض، التعليم والصحة، خلق الوظائف، التنمية الاحتوائية، تخفيض الدين العام. ورددتها وسائل الإعلام الخاصة والحكومية. وصدق من شاء أن يصدق. وترقبت المعارضة والجماهير المكبلة ماذا سيفعل الصندوق في عالم جديد..

 

كانت بشائر النتائج المثيرة للقلق في تونس وفي المغرب وفي الأردن قد بدأت أن تظهر على إثر برامج الصندوق منذ 2012. لكن من يحلل ومن يدقق؟ خاصة مع غياب أي تنسيق على المستوى الحكومي، وحتى على مستوى العمل الحزبي والأهلي، فقد كان أهل ونخب كل بلد غرقى في طوفان التغيرات السياسية المحلية.

 

لذا حين جاءت مصر متأخرة في اتفاقها مع الصندوق، لم تناقش أوضاع الأردن وغيرها من الدول السباقة إلى اتفاقات صندوقية تنتمي إلى جيل جديد من برامج الصندوق، جيل ما بعد الثورات العربية والانتفاضات الاجتماعية الدولية، جيل ما بعد الاعتراف بتزايد اللامساواة حول العالم وأضرارها على استدامة النمو وعلى التنمية والاستقرار. فكيف انعكس ذلك الاعتراف الصندوقي على البرنامج المصري؟ كان محض أماني لم تتحقق.

 

1-     السياق السياسي

 

في عام 2013، حين قامت ثورة مضادة أعقبها انفلات أمني، هربت رؤوس الأموال إلى خارج البلاد، ووقعت مصر في أزمة نقص الصرف الأجنبي. كان من علامات التأييد الأمريكي للنظام المصري (رغم الإدانة العلنية) أن وزير خارجية إدارة أوباما، جون كيري، أرسل إلى مديرة صندوق النقد رسالة يدعو فيها الصندوق إلى مساندة مصر، كما ربط أي مساعدة أمريكية إلى تلك الأخيرة بالاقتراض من الصندوق.

 

2-     على مستوى الشفافية

 

لم تنشر أي وثيقة رسمية قبل الاتفاق ولم تعرض على برلمان منتخب ولم تتم مناقشتها سوى مع الحكومة واثنين من أعضاء البرلمان معروفين بتأييدهم للحكومة. كما تأخر الصندوق -بالمخالفة لقواعده- عن الإعلان عن تفاصيل البرنامج في الإطار الزمني المحدد. في حين التزم -امتثالا لقواعده- بحذف أي انتقادات أو تفاصيل لا تريد الحكومة المصرية الإفصاح عنها.

 

3-     على مستوى التنفيذ

 

في قراءة مدققة لوثائق المراجعة الأولى لخبراء الصندوق، وجد باحثون أنه كان من المطلوب من مصر أن 9 من أصل 14 هدف وضعه البرنامج لم يتحقق، رغم قيام الحكومة بالقيام الإجراءات التي تم الاتفاق عليها. وأن الحكومة قامت بتطبيق الإجراءات ذات الأثر الاجتماعي السلبي ولم تقم بمعظم الإجراءات ذات الأثر الاجتماعي الإيجابي. كما أن الحكومة والبنك المركزي قد تخلفا عن القيام بخمسة إصلاحات مطلوبة، في مجملها مهمة ومفيدة على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي، مثل تلك المتعلقة بالشفافية وتخفيف الآثار الاجتماعية. فهل حذر الصندوق من عدم الالتزام بالبرنامج أو ترتب أي إجراء للضغط على الحكومة من أجل تنفيذ الإجراءات التي تعتبر إيجابية؟

 

الواقع أن الصندوق رحب بالتزام الحكومة وبنجاحها في تنفيذ البرنامج.. ولم يشر من قريب أو من بعيد إلى أي من الإجراءات التي تجاهلتها الحكومة، ولا إلى الأهداف الكمية التي لم تتحقق على الرغم من التزام الحكومة بالقيام بالإجراء المطلوب.. فعلى سبيل المثال، كان الهدف هو خفض الإنفاق الحكومي بنسبة 0.6٪ من الناتج المحلي. ولكن على الرغم من التزام الحكومة بتخفيض فاتورة الأجور الحكومية ورفع أسعار الطاقة المدعمة، كما طلب الصندوق، تضاعف الإنفاق الحكومي وتفاقم العجز (نتيجة مشروطية التعويم وتحرير أسعار الطاقة).

 

وتكرر هذا الإخفاق في تحقيق الأهداف الكمية، وفي تطبيق الإجراءات الإصلاحية اجتماعيا واقتصاديا.. خلال كل زيارة طوال السنوات الثلاثة التي حصلت مصر خلالها على أول وأكبر قرض من الصندوق.

 

وفي كل مراجعة لهذا القرض نجد أن مصر لا تلتزم إلا بأقل عدد من الإجراءات. وهي في الواقع أسوأ الإجراءات من حيث التأثير على النمو وعلى البطالة وعلى التضخم وعلى توزيع الدخول. بينما الصندوق يشيد بالالتزام العظيم من جانب الحكومة، ويصرف لها الشريحة المستحقة من القرض.

 

وهكذا صارت مصر خلال تلك الفترة ثاني أكبر عميل للصندوق بعد الأرجنتين.. ثم توالت القروض واحدا تلو الآخر. فهي الآن تنفذ -أو لا تنفذ- شروط القرض الرابع، وتطلب الخامس. بينما تدهور هيكل الاستدانة الخارجية وارتفعت تكاليفه.

 

لا تنفذ مصر سوى الشروط الحقيقية -وهي ما تعرف بال"تحركات المسبقة Prior actions" (أي السابقة على إعلان القرض، أو السابقة على الحصول على كل شريحة). ولا تنفذ سواها تقريبا، ولا تحقق معظم الإجراءات الهيكلية أو الأهداف الكمية، ويصدر الصندوق تقاريره إما بتعديل تلك الأهداف أو بقبول شرح الحكومة عن أسباب عدم تحقيق تلك الأهداف، أو حتى بالتجاهل كليا لتلك الإجراءات والأهداف الجيدة..

 

دروس مستفادة

 

دعونا لا ننخدع بطلاوة الصياغة التي تضمها وثائق الصندوق.

 

ففي كل الوثائق التي أصدرها الصندوق في المغرب وتونس والأردن والعراق ومصر، تتغير الديباجات والأهداف المعلنة من دولة إلى أخرى. وكلها كلام جميل، كلام معقول، لا تملك إلا الموافقة عليه بل والإعجاب.. فهنا يتحدث عن التعليم وأهميته، وهناك عن عدالة الضريبة، وذاك عن مكافحة الفساد. إلا أن هذا الكلام ليس هو ما يقيسه خبراء الصندوق. ولا ما يحدد معايير رضاهم. إن هي إلا تلك التحركات المسبقة التي يفرضها الصندوق، لا أكثر لا أقل. وتلك ثابتة لا تتغير من دولة إلى أخري.

 

-        إذا كان ولابد من اللجوء إلى الصندوق، فليكن من أجل المشورة الفنية في أمر قطاعي، متعلق بالحوكمة والشفافية.

 

قد يبدو أن قرار الاقتراض من الصندوق يخضع إلى رضا الدول الصناعية الكبرى صاحبة كتلة التصويت الأكبر داخل مجلس إدارة الصندوق، وعلى رأسها الولايات. لكن في الواقع، أن الصندوق يفضل أن يضم إلى حظيرته عددا أكبر من الدول/ العملاء، فهكذا ترتفع ربحيته. ولهذا فالأصل هو إغراء الدول.. ومن أصول الإغراء التمنع.

 

فكلما أتقن الصندوق لعبة التمنع، جرت خلفه الحكومات مدعومة ومدفوعة بجماعات المصالح المنتفعة، كي تقترض منه.

 

حيث تزداد ثروات كل من يملك ثروات دولارية، وكل من يملك فوائض يستطيع أن يقرض منها الحكومة، وكل من يملك منشآت كثيفة الاستهلاك للطاقة (بما فيها محطات توليد الطاقة الكهربائية)، وأخيرا الجهاز المصرفي. فكل هؤلاء تضمن لهم برامج الصندوق زيادة ثرواتهم. لذا من الأفضل ألا تلجأ الحكومات إلى صندوق النقد.. وإن كان ولابد، فليكن من أجل طلب المشورة الفنية فقط مثلا في مجال حوكمة القطاع المصرفي.

 

الاقتراض من الصندوق يؤدى إلى الوقوع في مصيدة الاقتراض الخارجي.

دائما ما يقال في الأدبيات سواء الناقدة أو الداعمة لمؤسسات بريتون وودز أن الصندوق هو الملاذ الأخير للاقتراض، ويقصد بذلك أن الحكومات تلجأ إلى الصندوق حين تعجز الحكومات عن الاقتراض من الدول الغنية أو من الأسواق العالمية. وهي مقولة خاطئة كما أثبتت التجارب الإقليمية جميعها، وعلى رأسها مصر. فالصندوق في الواقع هو مقرض الملاذ الأول. حيث تتزايد القروض الأجنبية بعد كل اتفاق مع الصندوق أضعافا مضاعفة. حيث يصمم الصندوق برامجه بحيث يرفع سعر الفائدة بدعوى محاربة التضخم. وفي رفع الفائدة إغراء للرأسمالية المالية العالمية، وللمصارف المحلية وللأثرياء، سواء لتعويض المدخرين بالعملة المحلية عن ارتفاع التضخم أو للتكسب عبر إقراض الحكومة. لذا حين يصدر الصندوق "شهادة الثقة" عبر إقراضه لدولة ما، فهو في واقع الأمر يطمئن هؤلاء إلى ارتفاع العائد عن ذلك الإقراض، وأنه ضامن لتلك القروض، عبر إعادة هيكلة المالية العامة، بحيث تنخفض كل أوجه الإنفاق الحكومي ما عدا باب الفوائد على الدين الحكومي وباب سداد القروض. وفي النهاية، تجد الحكومة نفسها مضطرة للاستدانة من الخارج للوفاء بالتزامات الدين الخارجي، لهذا تزيد الديون الخارجية قصيرة الأجل عالية الفائدة. ومن ثم يتدهور وضع الهشاشة المالية في مواجهة الصدمات.

 

ارتفاع معدل التضخم عبر سياسة متعمدة تصب في مصلحة المصارف والشركات والعائلات المالكة، وعلى حساب الاقتصاد الكلي والعدالة في توزيع الدخل

 

هذا التضخم يفتعله الصندوق، عبر سياسات مصممة بحيث ترفع معدلاته في بداية البرنامج: وعلى رأسها خفض قيمة العملة المحلية وتحرير أسعار الطاقة للقطاع العائلي (دون الشركات والمصانع، أو بمعدلات أقل كثيرا من تلك التي تتحملها الأسر). وليس من تلك السياستين ما هو أسوأ على المستوى الاقتصادي والاجتماعي: لنأخذ التعويم وأثره اقتصاديا كمثال. هو إجراء مؤذ للاقتصاد حتى بمعايير الاقتصاد النيوكلاسيكي، حيث يمثل صدمة سلبية للطلب الكلي، المكون من مجموع طلب المستهلكين، طلب المستثمرين في القطاع الخاص، طلب الحكومة، وصافي الميزان التجاري.

 

يؤدي خفض قيمة العملة إلى تضاعف فاتورة الواردات، في دولة مثل لبنان، (أو مصر، أو تونس أو الأردن) تعتمد على الاستيراد للوفاء باحتياجاتها من الطاقة والكثير من المدخلات والمواد الغذائية مما يفاقم صافي الميزان التجاري. ثانيا، يؤدي تدهور قيمة العملة المحلية إلى تدهور مالية الدولة، مما يفاقم عجز الميزانية (المزعوم تقليصه). أي تتقلص قدرة الدولة على الاستهلاك والاستثمار. والأسوأ، مع فقدان الليرة لقيمتها، تتدهور الدخول الحقيقية للملايين من السكان. ويؤدي ذلك بدوره إلى انخفاض الاستهلاك العائلي. وأخيرا يؤدي التعويم إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج المحلي، مما يغذي بدوره التضخم. كما يفقد الصناعات المحلية المعتمدة على المدخلات المستوردة قدرتها على المنافسة، خاصة الصغيرة منها، فيتأثر الطلب الاستثماري. والمحصلة هي أن ينخفض معدل النمو وتتدهور جودته، وترتفع معدلات البطالة والعمل غير الرسمي، نتيجة انخفاض الطلب الكلي. فإن أرادت الحكومة أن تتفادى تلك الآثار السلبية، فلتجرب أن تطلب من الصندوق أن تقوم بالتعويم وتحرير أسعار الكهرباء في نهاية البرنامج، بدلا من بدايته. ولن تنجح بالطبع.

 

الخلاصة، قد تعرف الطيور المهاجرة الطرق الآمنة التي سلكها الآباء القدماء، بطرق مثبتة، عبر تتبع مسارات الهجرة، ولكنها تبقى غير مفهومة للعلماء. وكأن آثار ومناطق الخطر والصدمات تنتقل عبر الأجيال، حتى كأنها تدخل في تكوين الجينات.. وبنفس الآلية غير المعلومة، تعترض الشعوب جيلا بعد جيل على برامج الصندوق والبنك الدوليين، مهما بدا خطابهما سديدا، وذلك باستخدام فطرتها. وبات الكثير من العلماء والباحثين يعرفون ما وراء أسباب الرفض الفطري ويدعموه بالبيانات والقرائن العلمية.. ولكن، كما تستخدم الكائنات المفترسة الحيل والألوان والأصوات لإغراء الطيور بمسار، هو الفخ المنصوب.. في حالة البشر تلك الكائنات من أصحاب المصلحة تملك وسائل للخداع المستميت لإقناع الفرائس بأن هذا المسار في مصلحتها. فلتحيا فطرة الشعوب السليمة.



تنويه:

نُشر هذا المقال ضمن النشرة الشهرية بعنوان "سياسات صندوق النقد الدولي:لا قاعدة ثابتة". الآراء والأفكار الواردة هنا تعبّر عن رأي الكاتب/ة فقط، ولا تعبّر بالضرورة عن الموقف الرسمي للشبكة.

 

احدث المنشورات
May 16, 2025
صندوق النقد الدولي في المنطقة العربية: سرديات الإصلاح ومآزق السياسة - حسن شري
May 16, 2025
لبنان وصندوق النقد الدولي: أزمة إرادة - د. خليل جبارة