زياد عبد الصمد
الحوار الوطني الحقيقي هو السبيل للخروج من المأزق - زياد عبد الصمد
نظَّمت شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية خلال السنة الماضية سلسلة من الحوارات الاجتماعية في عدد من الدول العربية بالتنسيق مع الكونفدرالية الدولية للنقابات العمالية واتحاد فدراليات قطاع الأعمال في منطقة الأورو-متوسطي، تناولت مسائل تتعلق بالعدالة الاجتماعية والسياسات العامة في المجالين الاقتصادي والاجتماعي.
يدور "الحوار الاجتماعي" بين أطراف ذات مصالح مختلفة/متناقضة، ويتناول القضايا الاقتصادية والاجتماعية، لا سيما علاقات العمل، حيث تلعب السلطة دورَ الوسيط بين الأطراف المتحاورة. يهدفُ الحوار الاجتماعي إلى التوصل إلى اقتراحات تساهم في اعتماد سياسات عامة تأخذُ بالاعتبار مصالح مختلف الأطراف المعنية وتحقيق العدالة الاجتماعية. غالبًا ما يستند الحوار الاجتماعي إلى المبادئ التي يقوم على أساسها العقد الاجتماعي الذي ينظِّم العلاقة الأفقية بين مختلف المكونات الاجتماعية في الدولة، والعلاقات العمودية التي تنظم علاقة المجتمع بالسلطة السياسية.
ماذا لو كان العقد الاجتماعي يعاني من اختلالات بنيوية؟
يؤدي الخلل البنيوي في العقد الاجتماعي إلى إقصاء فئات واسعة من المجتمع والتمييز بين المواطنين، وإلى انتهاكات حقوق الإنسان بدءًا بتقييد الحريات العامة والفردية والحد من المشاركة السياسية، وصولًا إلى عدم انتظام عمل المؤسسات السياسية والقضائية والإدارية، ما يؤدي إلى فشل دولة القانون في حماية حقوق المواطنين وبالتالي تغييب العدالة والمساواة. لتظهر عندها الانتماءات الأولية كالهويات الدينية أو العائلية أو المناطقية فتتقدم على الانتماءات الوطنية، ويزداد التوتر داخل المجتمعات وتتفاقم الصراعات والنزاعات على أساس الهوية أو الجنس أو الدين أو العرق. وهذا يؤدي إلى اختلاف أولوية الحوار لتحتل القضايا التأسيسية التي تعيد تنظيم العلاقات داخل المجتمع وبين الجماعات الأهمية على حساب الأمور والقضايا الاقتصادية والاجتماعية.
فالحوار ليس هدفًا بذاته، لا بل هو الوسيلة التي تساعد على تثبيت الاستقرار الاجتماعي من خلال العمل على تحقيق الأهداف المرجوة منه. ونجاحه يتطلب توفّر شروط تبدأ بالمناخ الديمقراطي الذي يحمي حرية الرأي والتعبير والمعتقد، وحرية التنظيم، ما يعزز ثقة المتحاورين ببعضهم وبالسلطات المعنية، بالإضافة إلى ضرورة توفر الاستقرار السياسي والأمني، ما يتيح متابعة المخرجات والالتزام بها. ولعل الشرط الأساسي لنجاح الحوار هو قناعة الأطراف المشاركة فيه بأهميته وشعورها بضرورة التوصل إلى نتائج ملموسة، وبالتالي إقدامها على تقديم تنازلات لإبرام التفاهمات فيما بينها.
أمّا في ظلّ الظروف الحالية التي تمرّ بها معظم الدول العربية، حيث تشهد تقييدًا للحريات العامة واضطرابات أمنية وسياسية، فإن شروط نجاح الحوار الاجتماعي غير متوفّرة. فتمسّك أصحاب النفوذ بمواقعهم لحماية مصالحهم ومصالح من يمثّلون من قوى، في الداخل أو في الخارج، وتجاهل حقوق الغالبية العظمى من المواطنين، يعيق القدرة على التوصّل إلى نتائج تساوي مختلف الأطراف المعنيّة بالحوار. فمنذ انطلاق الاحتجاجات الشعبية أواخر العام 2010، والمنطقة تشهد اضطرابات سياسية وأمنية وتحديات اقتصادية واجتماعية تعبّر بوضوح عن عمق الأزمة التي تعاني منها الأنظمة، بحيث لم تعد قادرة على احترام حقوق المواطنين وتلبية احتياجاتهم، في الوقت الذي بات الناس يعبّرون بشكل مباشر عن رفضهم للواقع والظروف التي يعيشونها ويطالبون بحقهم بالمشاركة والعيش بكرامة.
لقد مرّت المنطقة منذ مطلع القرن الماضي بتجارب متنوعة للتغيير السياسي. منها ما حصل بفعل الانقلابات العسكرية التي أوصلت الجيوش إلى الحكم، ومنها ما حصل نتيجة نجاح حركات التحرر الوطني وتبوّئها السلطة، ومنها محاولات الثورات الشعبية التي حصلت مؤخرًا، إلّا أنها فشلت كلّها في بناء الدولة التنموية الحديثة والعادلة المنشودة. كما فشلت في تطبيق العقد الاجتماعي الذي يساوي بين المواطنين في الحقوق والواجبات. وتسعى حاليًّا بعض الأنظمة والقوى التي تحتل السلطة إلى الدعوة لحوار تدّعي أنّه وطني يتجاوز الآليات الدستورية، ومشروط بحيث هي من تحدّد المشاركين فيه والمواضيع التي سيتناولها، كما أنّه يجري في ظلّ غياب تامّ للديمقراطية وتعطيل المؤسسات وآليات المشاركة السياسية وانتهاك الحريات العامة، وفي ظلّ فقدان ثقة المواطنين بالقوى السياسية التي تعتبر أنها من أوصل دول المنطقة إلى الأزمات التي تعاني منها حاليًّا.
وهذا ما يترك شعوب هذه المنطقة أمام خيار واحد وحيد، وربما أخير، لتوفير شروط الانتقال الديمقراطي نحو الدولة العادلة، وهو توفر القناعة بأهمية إطلاق آليات الحوار الوطني الحقيقي الذي تشارك فيه مختلف القوى الاجتماعية والسياسية الموالية والمعارضة ولا يستثني أحدًا. إنّ الحوار الوطني الشامل هو المدخل الوحيد لحلّ الخلافات والنزاعات المسلحة ولتحقيق المصالحة وإرساء مبادئ العدالة والمساواة.
زياد عبد الصمد