Nov 06, 2024
الإفقار النسوي في ليبيا: نحو استعادة الذات المفقودة - غدي كفالة
غدي كفالة
باحثة

الرجاء الضغط هنا لنبذة والمنشورات
غدي كفالة

 الإفقار النسوي في ليبيا: نحو استعادة الذات المفقودة - غدي كفالة 



يتشكل العنف بشكل عام ضمن سياقات معقدة و غير قابلة للتحليل الأحادي بسهولة، حيث تختلف أبعاد عملية العنف من فرد لفرد و سياق لسياق، ومن جماعة لأخرى. 


في بلدٍ مثل ليبيا، يعاني من نزاعٍ مباشر ونشط وانهيارٍ مؤسساتي شبه تام، تأخذ فردانية 'العنف' طابعًا خاصًا، مما يجعلها حالة فريدة يسهل تمييزها عن غيرها من السياقات. في هذا السياق، تأتي النساء في الخط الأمامي للمواجهة والاستهداف، ومع ذلك، يمكن لهن أن يمتلكن أدواتهن الخاصة لدرء هذا الشبح والبدء في مبادرات متمردة على الواقع المُعاش. فكما قال يورج بابروفسكي، 'العنف يشبه الحب، إذ يأخذنا إلى حالةٍ من الاندهاش'. لكل فردٍ طريقته الخاصة في فهم العنف، سواء كان ذلك بالإعجاب أو الرفض، مما يجعل التفسيرات والتجارب المتباينة حول العنف جزءًا من خصوصية التجربة الإنسانية.


دوماً في ليبيا تصور النساء الليبيات مجازياً بأنهن نتاج واضح لمبادئ الاشتراكية الهجينة لحقبة القذافي ، والتي نتج عنها نوع من النسوية الخاصة التي تعرف ب ”نسوية بلا نسويات“ وهي إحدى أهم استراتيجيات العنف الهيكلي الضامن لإفقار الحراك النسوي و جعله محدوداً، على نفس نهج معظم الدول الشيوعية في شرق أوروبا التي تمنح حقوق تضمن مفاهيم العائلة و الزواج الحصري و الفئوية الضالة. 


فهنا عمل نظام القذافي على منهجية ” التلاعب الحقوقي“ التي يمكن من خلاله خديعة العامة الغاضبة، و المجتمعات الصغرى الهشة- فيتم انتهاج نوع من التعبئة على قضايا في ظاهرها تظهر نسوية، وفي قالبها هي أفكار تسلطية مضادة لتحرير وذاتية المرأة Women Autonomy and Emancipation كمثلاً تصوير تواجد النساء في مجال حفظ الأمن لرئيس الدولة وإظهار القوة الجسدية أثناء المحافل الرئاسية الكبرى، وكأنها حالة لإظهار قالب حلوى كامل الزينة أمام العامة و بين طبقاته سوس يتراقص ضمن محتويات منتهية الصلاحية وهي في إظهار وسيلة للتحكم في هؤلاء النسوة ووضعهن تحت فئة المملوكات بإسم الحاكم. 


لذلك تعتبر المنظومة الحاكمة آنذاك هي منظومة نشأت في منطقة نزاع - ليس على الأرض الليبية بل على أراضي الاخرين-حتى غموض الانظمة تُجاه النساء يعتبر تهديداً - ومنظومة الحكم الليبية هي من أكثر المنظومات غموضاً من حيث تقديمها للنساء، حيث وُصفت المرأة بأنها كائن مشلول الحركة في العديد من المرات في الكتاب الاخضر كونها مرأة تحيض، تنزف شهرياً، تحمل، تلد، تُرضع! فالتفسير الذي وضعه الحاكم بأن لا يمكن أن تطبق المساواة الجندرية في وجود هذه العوامل البيولوجية، وكأنه يختصر كلمة مساواة في المساواة الفسيولوجية فقط! 


هنا نجد بأن المرأة الليبية كانت وليدة نزاع قائم، نزاع مع النظام الحصري ، ونزاع آخر مع (شوائب ما بعد النظام) أي بعد ٢٠١١ - هذه الشوائب التي انحسرت فقط في ايعاز الضعف البنيوي والذهني للنساء وعدم قدرتهن على التخطيط والانجاز واتخاذ القرار و قيادتهن لعمل ثوري متكامل، فوضعت النساء في خانة (الوقف) لحين زعمهم بناء الدولة، وبناء المؤسسات، وبالتالي شكلياً يمكن لهن التواجد في الأجسام العليا و الصانعة للقرار، ورغم محاولة الكثيرات للمُضي نحو عمل سياسي أو حزبي فاعل- فسرديات الاستضعاف و الوصايا المغلفة بالحماية والمصلحة ظلت موجودة رغم وضوحها وقدرة النساء على تفكيكها و الولوج إلى ما بعدها من أسباب مبطنة بسهولة.


تتسع السرديات وتقودنا إلى سؤال محدد: أين هن النساء من ترجمة ذواتهن المتمردة إلى ثورات شديدة الخصوصية؟ أم سيكتفين بتصويرهن  كمستضعفات ومجرد ردّات افعال؟


لا إجابة! فالليبيات حصلن على حقهن في تقلد المناصب القضائية مبكراً حيث تبوأت هذه المناصب سنة 1989 السيدة رفيعة العبيدي وفاطمة البرعصي في محكمة بنغازي الابتدائية والتي ناضلن من أجل الحفاظ على مكتسبات النساء في التواجد الفعلي في هذا المجال- وحسب إحصائية لـ المجلس الأعلى للقضاء يبلغ عدد أعضاء الهيئات القضائية في ليبيا بالكامل 3658 عضوًا منهم 1431 امرأة، وتبلغ نسبة مشاركة المرأة 39 %. 


ومع ذلك، يرى الكثيرون أن الثورة، رغم عفويتها، إلا أن هشاشتها لم تسفر عن تحقيق مكاسب إضافية في المجال القضائي أو حقوق النساء في المشاركة السياسية الفعلية حتى اليوم. 


غيراً عن كل ذلك- يمكن القول بأن الليبيات على الأرض ذهبن إلى بعيد في تقديم أنفسهن كفاعلات في فض النزاعات و الولاءات غير المباشرة في حروب القبائل والمناطق سنوات 2014 و 2016 ، و ساهمن في عشرات المناسبات في تحرير سجناء أطراف النزاع و تثبيط هيجان الحرب من جديد، و تقدموا برفضهن التواجد في بيئات حرب غير متناهية تحمل معها الصدمات النفسية و أساليب الحياة غير الصحية. 


ولكن هذا أسهم في تفاقم موجة الاغتيالات المستهدفة للنساء الناشطات والصحفيات، مما أدى إلى فقدان عدد من الأصوات البارزة التي كانت تدافع عن حقوق النساء وتساهم في التغيير الاجتماعي. فقد تم اغتيال سلوى بوقعيقيص، التي كانت رمزًا للصحافة الحرة، تلتها انتصار الحصائري، وحنان البرعصي، ونصيب كرنافة، وغيرهن من الناشطات اللاتي جازفن بحياتهن من أجل التعبير عن آرائهن. 

هذه الموجة من العنف أدت إلى شعور متزايد بعدم الأمان بين النساء الناشطات، مما أثر بشكل كبير على دورهن كمبادرات للتغيير. على الرغم من إسهاماتهن القيمة، سواء من خلال أقلامهن الصحفية أو من خلال وقفاتهن الاحتجاجية في الشارع، أصبحت الكثير منهن يفضلن الانسحاب أو التراجع عن النشاط العام.


من جهة آخرى أيضاً- تأسست أكبر مؤسسة أرشيفية ليبية سنة 1977 والتي تحوز على أكثر من عشرين مليون وثيقة ورقية ومستند صوتي و صوري، تسمى بـ ”المركز الليبي للدراسات والمحفوظات التاريخية“ والذي تم تغيير اسمه فيما بعد إلى ” مركز جهاد الليبيين“  سنة 1980  في تسمية تشير إلى تحجيم الأرشفة التقاطعية للتاريخ النسائي و السياسي و الاجتماعي وغيره إلى”تاريخ جهادي“ مهووس بالأرشفة المباشرة للرجال و الأحداث الميدانية التي يُساق معها تضحيات الأرض، والعرض و الكثير من دموية المشاهد. 


إعترف المركز في أكثر من مناسبة أن تأسيسه كان في ظل بيئة أبوية مسيطرة لم تعطي أهمية كبرى للسياقات الاخرى غير السياق الجهادي والحربي- وكان هذا موثقاً ضمن رحلة تأسيس المركز- ورغم كل الظروف القاسية والمجهودات الفردية في تأسيسه إلا أن اللجنة المؤسسة (أقل الايمان) كانت تتضمن سيدة واحدة وهي السيدة نجاة القابسي. 


لا يمكن إنكار اهمية ارشفة الحروب والنزاعات في المنطقة، ولكن في ذات الوقت لم يعطي المركز أهمية كبرى للأرشفة النسوية، من خلال ملاحظة هيكلة أقسامه المبنية بالدرجة الاولى على التاريخ الجهادي و الحربي ضد الإيطاليين، والتوثيق لحقبة الحكم التركي،  ومن تم إلى  تثير لنا علامة استغراب لطبيعة الممارسات الأرشيفية التي تتابع الجهات الرسمية في تخصيص ميزانيات كبرى لها ودفع أموال طائلة لها في تعزيز القوة الأرشيفية. 


حتى بعد الثورة- لم تكترث الجهات المعنية بأرشفة دور النساء في ثورة 2011 ووضع أي إمكانيات وموارد لتبيان إحساس النساء بالثورة! حالة الثورة وتفاعلهن معها، و قابليتهن للصدمة أو الفرح أو الريبة منها!! لم تضع هذه الجهات أي تضمين لرؤية النساء الليبيات للثورة ، بل العكس رسخت هذه الجهات جميع معايير الأنوثة واستخدمتها ضدهن في عديد من المرات بأنهن غير قادرات على التواجد الميداني لتغيير سياسات معينة أو تظاهرة حاسمة، ومع ذلك تمكنت النساء من إستخدام الارشفة بوسائلها الحديثة كفعل مقاومة و تمرد قوي، ورأينا سيدات ليبيات كنزيهة عريبي و هادية قانة وريم حقيق منصات لتحقيق واقع أفضل مما كانت عليه وضمان وجود حقيقي ميداني ورقمي فعّال لكل النساء من خلال أفلامهن التجريبية و المطولة وأعمالهن التفاعلية عن واقع النساء اليوم. 


أخيراً, المرأة لم تكن يوماً مجرد هامش في قصة نزاع عابر؛ بل هي قوة كامنة تتحدى القيود المتراكمة وتعبر عن ذاتها بشتى الأساليب، بين مقاومة الظلم واستثمار الفضاءات المتاحة لتحقيق تأثير دائم. فرغم تشويه الأرشيف، فإن مواقف النساء مسجلةً بمواقف تتحدى الهيمنة، بصرخاتٍ تخترق صمت الحكايات التي تُكتب على هوامش الحروب.



 غدي كفالة 


احدث المنشورات
Dec 07, 2024
النشرة الشهرية لشهر تشرين الثاني/نوفمبر 2024
Dec 03, 2024
الديون السيادية في المنطقة العربية: بين استدامتها وعدالة السياسات الضريبية - أحمد محمد عوض