زياد عبد الصمد
وصل دوي انفجار الرابع من آب الى قبرص وشعرت به الأردن فسجل مرصدها هزة أرضية بقوة 4.4 على قياس رختر، وقد اعتُبر الانفجار الثالث في التاريخ بعد هيروشيما ونغازاكي من حيث قوته، وقد سبقته ظروفٌ مرّ بها لبنان تعتبر مقدمات تسببت به:
الازمة الاقتصادية الخانقة التي بدأت تظهر منذ صيف 2016 ولكنها تفاقمت في صيف 2019 حيث بدأ لبنان يعاني من عجز في الموازنة وفي الخزينة وفي ميزان المدفوعات، وبدأ سعر العملة بالتلاعب لأول مرة منذ العام 1993، الامر الذي تطلب القيام بإصلاحات جذرية للمعالجة لوقف الهدر واعتماد التدابير التي تضبط الانفاق العام وتعزز الواردات، وايضاً للحصول على التمويل من الخارج على شكل استثمارات او هبات او قروض او تحويلات خارجية. وقد خُصّص مؤتمران دوليان للجهات المانحة في باريس، الأول عقد في آذار 2018 عشية الانتخابات النيابية والثاني في ديسمبر 2019 حيث تم تكليف صندوق النقد الدولي بالإشراف على تطبيق السلّة الإصلاحية المطلوبة للحصول على المنح والقروض ولكنها لم تطبق.
جاءت ثورة 17 تشرين الشعبية ردا على الانهيار الاقتصادي وعجز السلطة وتلكؤها عن المعالجة، وقد طلبت الثورة من المنظومة الحاكمة التنحي وسحبت منها ثقتها بعد ان حملتها مسؤولية الانهيار وبالتالي عدم قناعتها بقدرتها على إدارة المرحلة وإنجاز الإصلاحات اللازمة للخروج من الازمة. أدت ثورة تشرين الى اسقاط حكومتين في فترة 9 أشهر مطالبة بحكومة مستقلة لقيادة البلاد في المرحلة الانتقالية. تفاقمت الازمة المالية والنقدية خلال الثورة وتوقفت المصارف عن دفع المستحقات لصغار المودعين إلا وفق شروط وسقوف معينة كما توقف لبنان عن دفع ديونه في العملات الأجنبية، وطبق قانون ضبط تحويل الرساميل الى الخارج من دون إقرار القانون في البرلمان ما فتح المجال امام الاستنسابية بحيث تمكن أصحاب النفوذ والرساميل من تهريب أموالهم الى الخارج وحرم المودعون الاخرون من ذلك، وتقدر الرساميل التي هاجرت بعد اندلاع ثورة أكتوبر بـ 20 مليار دولار.
الجائحة التي اثرت على كل دول العالم وعلى العلاقات الدولية، الا ان وقعها في لبنان كان مضاعفا بسبب الازمة الاقتصادية ما تسبب بازدياد معدلات البطالة والفقر والتضخم. فقد بلغ معدل الفقر حوالي 40% كنا بلغت معدلات التضخم نسباً غير مسبوقة مترافقا مع انهيار سعر العملة الوطنية التي فقدت 80% من قيمتها، وتبلغ نسبة العاملين في القطاع غير المنظم في لبنان 60% ما جعل النسبة الأكبر من السكان لا يستفيدون من انظمة الحماية الاجتماعية.
ان لبنان هو جزء من منطقة تعاني من احتلالات ونزاعات مسلحة وحروب بين محاور إقليمية ودولية محركها الأساسي صراع تاريخي على النفوذ وعلى الموارد الطبيعية، لهذه الازمات امتداداتها في العمق اللبناني وساهمت في انقسام المجتمع حولها في ظل دولة ضعيفة لا تلعب فيها المؤسسات دورها الكامل في صياغة السياسات العامة على المستوى الداخلي والخارجي.
تمادي منظومة المحاصصة المذهبية والحزبية في الإهمال وممارسة الفساد على ارفع المستويات اديا الى انفجار الرابع من آب. وقد اضاء الانفجار على المستوى الذي بلغه انهيار الدولة من دون ان تكون هناك النية الصادقة بإصلاحها؛ فالقضاء كان على علم بوجود المواد الخطيرة وأصدر قرارات لمّا تنفّذ، وكذلك بالنسبة الى الأجهزة الأمنية المعنية والى إدارة المرفأ وصولا الى القيادة السياسية على مستوى الوزراء المعنيين والرئاستين الأولى والثالثة، كلها كانت على علم ولكن سوء التنسيق من جهة وغياب النيّة في الإصلاح من جهة ثانية. ان السكوت عن الفوضى في المرفأ، وفي المرافق العامة الأخرى، من قبل كل أطراف المنظومة سببه انهم مستفيدون من عائدات الفساد كل على طريقته ومن خلال المحسوبين عليه في الإدارات العامة وقد وظفهم فيها لتحصيل الحصة. كل هذه الممارسات أوصلت البلاد الى الإفلاس وقادته الى اللحظة الأكثر إيلاما بتاريخ لبنان عندما انفجر المرفأ متسببا بأسوأ كارثه عرفها في المئوية الأولى على تأسيسه.
ان الواقع الأليم الذي تمرّ به الدولة اللبنانية بمؤسساتها أدى الى غياب استراتيجية وطنية لإدارة الكوارث للاستجابة في الحالات المماثلة سيما وان لبنان عرضة لكوارث طبيعية (حرائق) وامنية (العدوان الاسرائيلي 2006) رغم ان هيئة إدارة الكوارث موجودة منذ العام 2013 وفق مرسوم صادر عن رئاسة مجلس الوزراء جعل مركزها في مقر رئاسة الحكومة. الا ان عدم وجود قانون لإنشاء مؤسسة وطنية للكوارث نتيجة التجاذبات على الصلاحيات في مداولات اللجان النيابية، أدى لان تكون صلاحيات الهيئة محدودة. فكُلفت بالتالي الهيئة العليا للإغاثة (ومهمتها إحصاء المتضررين والاحتياجات) وقيادة الجيش اللبناني (توزيع المساعدات) بأعمال الإغاثة علما انها تتطلب استراتيجية وطنية شاملة تأخذ بالاعتبار الابعاد المختلفة للكارثة وحجمها وخطورتها.
الدمار وإعادة الإعمار
بيروت من أقدم المدن على المتوسط ومنذ نشأتها كان لها مرفأ ساهم بازدهار تجارة الفينيقيين، واستمر عبر الأزمنة، وتوسعت المدينة حول مرفئها، الى أن جاء محمد على باشا فقام بتوسعته في ثلاثينات القرن التاسع عشر قبل ان تنتقل عاصمة ولاية صيدا اليها، ومن ثم قام الفرنسيون بتطويره عام 1887 فازداد عدد سكان المدينة الذي لم يكن يتجاوز الـ 6 الاف نسمة، واخذت تزداد أهمية في عهد المتصرفية (1861-1918). هذا بالإضافة الى أن احياء المدينة المحاذية للمرفأ هي الاقدم وفيها الاحياء الفاخرة والجميلة وبعض الأبنية التي يزيد عمرها عن 150 سنة وقد ألحق الانفجار فيها الدمارـ ما يجعل من عملية الترميم مسألة معقّدة إذا كان الهدف هو المحافظة على تراث المدينة وطابعها التقليدي الذي عرفته منذ القرن التاسع عشر وتميزت به.
ووفق تقرير نقابة المهندسين نتيجة الكشف الاولي الميداني الذي قامت به في الأيام الأولى التي تلت الانفجار انه "طاول 30 إلى 40 مبنى بات مهدّداً بالانهيار بعد تدمّره كليّاً، بالإضافة إلى تضرّر 800 إلى 900 منزل لم يعد صالحاً للسكن. وخلص التقرير الأولي إلى أنّ إجمالي عدد المباني المتضررة يبلغ 39 إلى 40 ألف مبنى، وأنّ عدد المساكن المتأثرة قارب 200 ألف مواطن فقدوا منازلهم" (18 آب). وحسب مديرية الآثار في وزارة الثقافة اللبنانية، فقد تضرر 640 مبنى تاريخيا، و60 منها معرضة لخطر الانهيار الكامل، وهي من بين ما لا يقل عن 8 آلاف مبنى تضررت من الانفجار، وتتضمن متاحف ومعارض فنون ومواقع دينية (15 آب). وقد اتى الانفجار ايضا على كل المتاجر والمحال والمقاهي والمطاعم ومراكز الشركات التي أقفل معظمها وتخلى عن الموظفين. هذا فضلا عن الدمار الذي لحق بالبنى التحتية التي تأثرت الى حد بعيد. لذا فان عملية الترميم وإعادة البناء معقدة وتتطلب تخطيطا وتنظيما يتعدى قدرة الإدارات العامة المنخرطة في اعمال الاغاثة والمنظمات التطوعية والدولية.
المبادرات الإغاثية والمساعدات الإنسانية
ان المبادرات المدنية التي تسعى الى تنسيق عملها الميداني والتي تتلاقى مع جهود المنظمات الدولية المعنية لها الأثر الطيب والايجابي رغم انه غير كافي على الاطلاق. فقد قام المتطوعون بإزالة الركام وترميم ما يمكن ترميمه كما وفّروا المساعدات الإنسانية للمتضررين من ملبس ومأكل ومسكن ضمن الإمكانيات المتوفرة. هذا بالإضافة الى اسعاف الجرحى وقد بلغ عددهم 7 الاف من بيهم حوالي الألف دخلوا المستشفيات و130 وضعوا في العناية المركزة. ويبلغ عدد الضحايا حوالي الـ 200.
كما بادر نقيب المحامين الى إطلاق هيئة تنسيق بالشراكة مع نقباء المهندسين والمقاولين وخبراء المحاسبة للمساهمة في مواجهة التحديات وتوفير الدعم المناسب للسكان الا ان العملية تتطلب تنسيقا على مستويات ارفع تقوم بها الدولة ومؤسسات الدارة العامة الا ان منظومة الفساد التي تسببت بالكارثة، وقبلها بإفلاس البلاد، افرغت الإدارة من الإمكانيات بحيث باتت عاجزة عن القيام بأعباء المرحلة. تلك المنظومة التي لم تحمِ مسرح الجريمة الذي تعرض لثلاثة حرائق أتت على الأدلة والمستندات التي تفيد التحقيق في المجزرة، لا يمكن ان نتوقع منها دورا في اعمال الإغاثة والاعمار.
لبنان والنظام بعد انفجار الرابع من آب
ان الشعار الذي طالما تباهى به اللبنانيون ان "بيروت مثل العنقاء ستقوم من تحت الأنقاض"، لن يتحقق الا في حال تأمنت ظروف القيامة التي تبدأ بإعادة بناء الدولة والمؤسسات واسترجاع العلاقات الإقليمية الدولية السليمة والتاريخية التي تميّز بها لبنان على مر العقود والتي جعلت منه مقصدا وملاذا للضيوف والسياح وملجأ لكل مظلوم وطالب حرية.
لذلك فان اللبنانيات واللبنانيون يطالبون منظومة الفساد والمحاصصة ان تفسح المجال امام حكومة مستقلة تدير عملية الانتقال السياسي لتقوم بالمهام التالية:
· استكمال التحقيق المستقل بجريمة 4 أب، وجريمة 8 أب حيث أطلقت القوى الامنية النار الحي على المتظاهرين السلميين ما تسبب بوقوع 770 جريحا منهم من فقد بصره، ومحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم الموصوفة.
· القيام بالإصلاحات الاقتصادية والمالية والنقدية الضرورية لاستعادة ثقة المجتمع اللبناني والدولي في السلطة والحصول على الهبات والقروض الموعودة
· اتخاذ التدابير والقرارات التي تعزز استقلالية القضاء للقيام بدوره الرقابي خاصة في مجال التفتيش الإداري والمالي، والقيام بالتحقيقات في الفساد ومحاسبة الفاسدين المسؤولين عن انهيار البلد والسعي لاسترجاع الأموال التي نهبت
· تشكيل هيئة مستقلة لاقتراح قانون انتخابات وتنظيم الانتخابات الحرة والنزيهة والديمقراطية لإعادة تكوين السلطة
· القيام بالإصلاحات الإدارية التي تمكن الدولة من لعب دورها الاغاثي وفي إعادة الأعمار وفي منع التهريب عبر المعابر الشرعية وغير الشرعية
وقف الجنرال غورو، المندوب السامي الفرنسي، على درج قصر الصنوبر ليعلن تأسيس لبنان الكبير في الأول من أيلول 1920، وكان مطلبا لبنانيا جامعا آنذاك، وبعد مئة عام، وقف الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون على نفس الدرج ليقرع منظومة الفساد معلنا خارطة الطريق الى الإصلاح السياسي والمالي والاقتصادي وطالبا منها ان تفسح في المجال امام جيل جديد من السياسيين لقيادة البلاد في المرحلة الانتقالية والخروج من الازمة مؤكدا ان لا تمويل من دون اصلاح.
لن يتمكن لبنان من الاستمرار دولة مستقلة ذات سيادة حرة وديمقراطية الا في حال انتقل من النظام الطائفي الى الدولة العلمانية التي تفصل الدين عن الدولة، وتستعيد الدولة سيادتها الأمنية والإدارية والسياسية على كامل أراضيها وعلى خاصة على سياساتها الخارجية وعلى راسها قرارات الحرب والسلم.
لقد أضاع لبنان واللبنانيون واللبنانيات قرنا كاملا في الطائفية والفساد، فليكن القرن القادم قرن الحداثة والتقدم والازدهار.
زياد عبد الصمد