أجندة المرأة والسلام والأمن: بين الفاعلية والإخفاق - منار زعيتر
أجندة المرأة والسلام والأمن: بين الفاعلية والإخفاق - منار زعيتر
في أكتوبر/تشرين الأول من العام 2000، مهدَّ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1325 الطريق لتطوير ما يعرف حاليًا بأجندة المرأة والسلام والأمن.
لأكثر من عقدين، وُصفت الأجندة بأنها ناجحة على المستويين الدولي والوطني، وحقَّق القرار 1325 وما تلاه من قرارات تغيرًا كبيرًا في الخطاب العالمي، وأعاد النقاش حول الأدوار المختلفة التي يتولاها الرجال والمرأة اثناء الصراع وخلاله وبعده. ففي حين كانت خلفية الاعتراف بالمساواة بين الجنسين سابقا تعترف بالنساء كضحايا، أصبح يُعترف بهنَّ كعوامل فاعلة من أجل السلام والأمن. ولهذه القرارات أهميتها بوصفه قرارات ملزمة للدول عملا بالمادة 24 من ميثاق الأمم المتحدة، ولكون القرار 1325 أول اعتراف دولي بأهمية المرأة في خطاب السلام والأمن، وأول أداة سياسية وتشغيلية غيرَّت المفهوم الأمني وأعادت صياغة مسألة حقوق المرأة في سياق النزاعات وما يليها.
على أهمية هذه الأجندة الدولية، وعلى الرغم من الأدلة الداعمة للقوة التحويلية لها، ثمة الكثير من جوانب الإخفاق التي يفيد بحثها والتفكير بها. وسنحاول التركيز على ست جوانب أساسية.
بدايةً، أخفق القرار 1325 في معالجة الأسباب الهيكلية لعدم المساواة التي تجعل المرأة أكثر الضحايا في مناطق الحرب. فقد تمَّ إدراج المرأة في تدابير السلام والأمن كمسألة منفصلة عن قضية عدم المساواة بين الجنسين. إن مخاطبة النساء والفتيات بشأن مصالحهن الإستراتيجية أكثر من ضروري، ولكنه يتطلب معالجة أوسع لعدم المساواة الهيكلية، التي تتفاقم خلال الحروب وتمنع من كفالة وصول النساء إلى الحقوق الأساسية. القرار بهذا المعنى يشير بشكل صريح إلى النساء، ويترك جانبًا هياكل السلطة القائمة التي تتخذ أشكالاً أكثر حدةً خلال النزاعات، ولا يتطرق إلى الأسباب البنيوية التي تقضي النساء ولا تساعد في حمايتهن، لذلك هو لا يتطرق الى قضايا بنيوية كالفقر او الثقافة كمكونات حاسمة في مقاربة قضايا النساء. وقد مهد لهذه المقاربة إزالة الطابع السياسي عن الأجندة. حيث درج التعامل مع أجندة المرأة والسلام والأمن على أنها منفصلة عن المشاريع التحررية الأوسع نطاقاً، مما يجعلها أداة لإعادة الإنتاج الأبوي للعلاقات بين الجنسين فحسب، وليس أداة تحررية وسياسية.
ثانياً، يُقِر
القرار 1325 بمشاركة المرأة في بناء السلام وتسوية النزاعات، لكنه يُسكِت
الانتقادات النسوية للنزعة العسكرية الهيكلية ويفشل في الاعتراف بالصلات المعقدة
بين السلام والمساواة بين الجنسين. فهو لا يدين النزاع نفسه، بل جوانب
معينة منه. ويترك هياكل الحرب وأنظمتها. لذلك، إن التركيز على إعادة تشكيل الذكورة
والأنوثة كاستراتيجية لمقاومة العسكرة أمر ضروري لإعادة الأجندة إلى ما يمكن
اعتباره غرضها "الأصلي" المتمثل في منع الحرب. وتساعد
هذه المقاربة في إعادة التأكيد على حدود سياسات المرأة والسلام والأمن بوصفها
أجندة سياسية ووسيلة لتحقيق هدف نسوي مناهض للنزعة العسكرية. لقد طغت الرؤية الليبرالية للمرأة والسلام والأمن باعتبارها تركز على
إضافة النساء إلى الهياكل العسكرية بدلاً من تغيير كيفية فهمهم للأمن الدولي
وسعيهم لتحقيقه وعلى
"جعل الحرب آمنة للنساء" بدلاً من منعها. وبذلك، تتعارض فكرة النهوض بالمرأة في سياقات
شديدة العسكرة مع النقد النسوي المناهض للعسكرة، والذي انبثق منه القرار 1325 في
المقام الأول. وبهذا المعنى،
يمكن التشكيك في السياق المؤسسي للأجندة، لأنها تظهر أنها لا تحاول منع الحروب أو
التشكيك في شرعيتها، بل تسعى إلى جعل الحروب مساحة أكثر أمانًا للنساء وحمايتهن في
هذه السياقات. بالتوازي، يبدو واضحًا بعض النمطية الضمنية في القرار 1325 وهو
الافتراض بأن زيادة إدراج المرأة سيؤدي إلى تحوُّل في كيفية معاملتهنَّ في مناطق
الحرب. وهو ما يؤكد القوالب النمطية الجنسانية التي تضع النساء كصانعات سلام. من
هنا تبدو أهمية بلورة الحركة النسوية في منطقتنا موقفها من الحروب وآلة القتل التي تفتك ببلادنا، من منطلقات
سياسية وطنية. موقف يرفض الحروب والنزاعات بوصفها أدوات تثبيت الأنظمة ووأد حق
الشعوب بتقرير مصيرها والتعبير عن خياراتها. موقف
لديه فهم واضح لمسار الصراع في المنطقة
في جانب ثالث، يفتقر القرار 1325 إلى آليات إنفاذ تساهم في فعاليته. إن القيود المفروضة على القرارات الدولية بشكل عام وعدم إنشاء آليات إنفاذ صريحة، تجعل القرارات تعمل فقط كمجموعة من المبادئ التوجيهية. لا ينصَّ القرار على أية إشارات بشأن آليات المساءلة أو التنفيذ لتقدمها، ولا أي معايير أو أهداف لقياس التقدم الذي تحرزه. لذلك، يجري الحديث وبقوة في أروقة الأمم المتحدة عن تعزيز مجالات التآزر على المستوى الموضوعي والاجرائي بين القرار وباقي ولايات حقوق المرأة. الإشكالية الأكبر في الوقت الراهن هو قدرة مختلف أجهزة وآليات الأمم المتحدة في تحقيق السلام وفقدان ثقة الشعوب بها.
رابعاً، تقوم الأجندة على مقاربة مجتزأة. من جهة هي تتعامل مع النساء بوصفهن مجموعة متجانسة، في حين إن تجاربهنَّ مع النزاع واحتياجاتهنَّ المحددة في النزاع وما بعده متباينة، وأغفلت الاشارة إلى النساء الأكثر هشاشة في أوضاع النزاعات. ومن جهة ثانية، هي ركزت على المشاركة السياسية للنساء وأغفلت المشاركة الاقتصادية.
فجوة خامسة يمكن الإشارة لها تتعلق بتوطين الأجندة. لقد كشف أكثر من عقدين من تاريخ الأجندة كيف أن إطارها التنظيمي لا يتكيف بالضرورة مع السياقات المحلية، مما يدل على انعكاس ملامح السياق الذي تنبثق منه، وهو سياق مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وهنا يمكن الحديث عن تضمين الأجندة مفاهيم استعمارية. إن خطط العمل الوطنية لبلدان الجنوب العالمي ليست بالضرورة محلية في مجملها، وذلك بسبب تأثير المنظمات من بلدان الشمال العالمي أو المنظمات الدولية في عملية تطويرها، مما يحول جدول أعمال المرأة والسلام والأمن إلى خطة عمل لإدامة الهيمنة من الشمال على الجنوب. ولم تنجح أغلب مقاربات التوطين التي تم الترويج لها. ومن الأمثلة على ذلك التسلسلات الهرمية للمعرفة التي يتم انتاجها من جانب مؤسسات تقع داخل الشمال العالمي "الآمن" تحاول تأطير العمل في الجنوب العالمي "غير الآمن"، وذلك أمر مرتبط بشكل مباشر بديناميكيات القوة بين الشمال والجنوب، ما يدعو الى التفكير في ارتباط الحركة النسوية بسياقها الخاص، بدلاً من مجرد تكرار خطاب المنظمات والوكالات الدولية وأجندتها. للأسف الشديد، تنعكس الصور النمطية للشرق التي صنعها الاستعمار في مناهج عمل العديد من التدخلات الدولية وفى برامجها التي تعاد الى منظمات المنطقة العربية لتكريسها والتي تتغير ملامحها عقدا بعد آخر ارتباطا بتطور الرؤى الغربية بدون استكشاف عما اذا كانت تلك الرؤى قابلة للتبني والتطبيق في الأرض العربية. في العقود الأخيرة، وفى ظل التمويل المحلى الهزيل او المنعدم في الدول العربية واعتماد المنظمات النسوية على مؤسسات التمويل الخارجي تراجع العمل النسوي المناهض للهيمنة وللأبوية وللرأسمالية، وتتبنى اغلب المنظمات- المحلية وليس جميعها- هذا النمط ذاته وتعيد طواعية انتاج تلك الرؤى وتعكسها في علاقاتها مع المجتمعات المحلية التي لم تتأخر في رفض تقبل تلك الخطابات ولا مقاومتها اما عن طريق التجاهل او النقد المباشر او التمسك الاعمق بالقيم المناوئة للمساواة بين الجنسين.
اخيراً، ساهمت الأجندة بشكل أو بآخر في تكريس " نسوية الدولة"، مع استحواذ أنظمة غير ديمقراطية على مشروع حقوق النساء ومبادرة الآليات الوطنية المعنية بشؤون المرأة في غالبية دول المنطقة في تطوير " الخطط الوطنية الخاصة بالقرار 1325". على أهمية هذه الخطط، فهي روضت بشكل أو بآخر الخطاب النسوي الخاص بقضايا المرأة والسلام والأمن، وساهم ذلك على المدى الاستراتيجي في إفراغ الحراك النسوي في المنطقة من دوره السياسي.
في الخلاصة، بين اعتبار أجندة المرأة والسلام والأمن أدوات لا غنى عنها في مجال السلام والأمن، وبين قراءتها بوصفها جزءاً من النظام السياسي والاقتصادي العالمي النيو ليبرالي الحالي، العديد من مجالات التفكير والبحث. والكثير من العمل الذي يقتضي بالحركة النسوية في المنطقة العربية بدء العمل عليه، بغاية تكييف الاجندة من ضمن مشروع نسوي سياسي تحويلي.
يبقى السؤال الأهم: كيف يمكننا بعد كل ما تعيشه منطقتنا تبني هذه الأجندة في ظل ازدواجية مواقف كثر من النسويات العاملات على قضايا السلام والامن في العالم اتجاه ما يحدث في فلسطين؟ وكيف يمكن الثقة بالسياسة الخارجية لبعض الجهات المانحة التي تتحدث عن تحرير المرأة الفلسطينية من " العنف والتمييز" من دون الحديث عن حقها في أرض تعيش عليها؟ في العام 2024 تتكرر دورة التاريخ القاتمة. وها هي النسوية الغربية الليبرالية بغالبيتها تتبنى مواقف مخزية من جريمة الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني. وهي النسوية نفسها بمواقفها قبل وقت من أزمات النساء في العراق وأفغانستان وليبيا وسوريا واليمن وغيرها من دول، ومن مسارات الأحداث في هذه الدول. نسوية قد تأسست على الرواية المألوفة: " تحتاج النساء في هذه المنطقة للتحرر والإنقاذ من الاضطهاد الذكوري ومن القوى الدينية المتشددة". وهو موقف يتجاهل الأسباب البنيوية لواقع النساء. بحيث تصبح محنة النساء الفلسطينيات على سبيل المثال عنف " الرجل الفلسطيني" أو " الأبوية العربية" فحسب لا " الاحتلال والاستعمار " التاريخيين. نسوية قائمة على ازدواجية المعايير والرغبة بمنع النساء في الجنوب من التعاطي والتفاعل مع هويتهن ووجودهن وحقهن بالمشاركة في تقرير مصير بلدانهن.