من ارض فلسطين للعالم - د. هديل رزق-القزاز
منذ ما يزيد عن سنة ونحن نتسمر أمام أجهزة التلفاز ووسائل التواصل المجتمعي التي تنقل إلينا مباشرة وقائع حرب غير مسبوقة على قطاع غزة ولبنان، يتم خلالها ارتكاب أبشع جرائم الحرب، الواحدة تلو الأخرى مع رقيب دائم وتوثيق حاضر ولكن دون حسيب. حرب طالت البشر والشجر ومقدرات اليوم وإمكانيات المستقبل وخيارات الناس. يتساءل الناس يومياً : أين حقوق الانسان؟ والقانون الدولي الإنساني؟ أين المؤسسات الدولية والأممية مما يحدث؟ أين أجندة المرأة والسلم والأمن التي سوف تحتفل العام المقبل بالذكرى الخامسة والعشرون لصدور قرار مجلس الأمن 1325 حول المرأة والسلم والأمن.
منذ عام 2000، وحتى الآن انخرطت النساء الفلسطينيات في العمل على الأجندة، بل وأنجزن خطتين وطنيتين وائتلافات وتحالفات وطنية، دون جدوى. حيث لم يستطعن حتى المساهمة في إنهاء الانقسام الفلسطيني أو تحقيق أي مكتسبات تتعلق بالمشاركة السياسية، أو التمثيل السياسي. مما لا شك فيه أن هناك العديد من الأسباب والمبررات لهذا الواقع، ولكن لا بد أيضا من رؤية نقدية للجهد الذي بذل حتى الآن ولم يثمر.
الأجندة الدولية للسلم والأمن ترتكز على قرار مجلس الأمن 1325 والقرارات اللاحقة حول مشاركة النساء، وما يترتب عليه من إعداد خطط وطنية تعرف ب (NAP) وهي خطط تستند إلى أربعة أركان هي مشاركة النساء في جهود المفاوضات وإحلال السلام، وحماية النساء من آثار الحروب والنزاعات وتحديدا العنف الجنسي والعنف المبني على النوع الاجتماعي ومنع النزاعات والحروب والتخفيف من آثار الحروب والتعافي. ما يحدث في فلسطين ولبنان حالياً يشكل فشلا ذريعا لهذه الأجندة الليبرالية التي تركز على الشكليات المتمثلة في إعداد خطط جيدة على الورق لا يمكن تطبيقها، ولا تسمح موازين القوى الحالية بضمان الحماية للنساء والمدنيين، وتشكل المساعدات الإنسانية ورقة مساومة وضغط بدلا من أن تكون حقا مضمونا. الأهم من ذلك الفشل الذريع لآليات المحاسبة والمساءلة لمجرمي الحرب، وعدم قدرة المنظومة الدولية على إصدار قرارات ملزمة بإيقاف الحرب.
يتضح أن أجندة المرأة للسلم والأمن أجندة ليبرالية استخدامية للنساء، تبني على معاناتهن وتحديداً في مجال العنف الجنسي والعنف المبني على النوع الاجتماعي، وأنها ذات قوالب جاهزة تؤدي إلى انتاج خطط وطنية متشابهة، بدون أي إمكانيات للمساءلة والمحاسبة. في لبنان أيضاً والتي تعاني من ويلات الحرب الممتدة أعدت الخطة الوطنية في العام 2019، كما في العراق واليمن وسوريا وغيرها من دول المنطقة. ويبقى السؤال هل هناك دور حقيقي للنساء في السلم والأمن ومقاومة الحرب، غير الدور الدي نراه يومياً كضحايا يعانين من ثكل وألم وفقدان، أو ما نسمعه من شهادات يومية عن حجم المعاناة والتجويع والتعطيش والحرمان من المأوى وأبسط مقومات الحياة.
في الأيام الأولى للحرب على غزة وصلت المؤسسات الإغاثية والإنسانية اتصالات متتالية من مؤسسات نسوية في قطاع غزة والمنطقة تسأل ماذا يمكننا ان نفعل؟ ماذا نقدم للناس لنخفف من آلامهم ونساند مجتمعاتنا المحلية؟ كانت المؤسسات النسوية وتلك التي تقودها نساء أول من اندفعت لمساعدة مجتمع غزة المكلوم. عضت النساء على جراحهن وفتحن أبواب مؤسساتهن للجموع المتدفقة من شمال قطاع غزة، وقدمن لهم المأوى والطعام والدعم النفسي وقمن بحل الخلافات والنزاعات المجتمعية البسيطة التي نشأت عن الاكتظاظ. كناشطة نسوية أتابع الحركات النسوية في المنطقة أعرف تماماً أن النساء هن دوماً أول من يتحركن للتخفيف عن آلام مجتمعاتهن، وأنهن أول من يقدم الدعم المجتمعي، وآخر من يتم الاعتراف بمساهمتهن. هذا الأمر شهدناه في اليمن وسوريا والعراق وغزة ولبنان. وفي اللحظة التي تتم فيها مأسسة العمل الإنساني وتقديم خطط وقطاعات الاستجابة الإنسانية تجد النساء أنفسهن في قطاعات محددة مثل قطاع الحماية ـأو قطاع محاربة العنف المبني على النوع الاجتماعي. لا تتواجد النساء في القطاعات المتخصصة أو في قطاعات اتخاذ القرارات المصيرية، وتغبن تماما عن أي نقاشات سياسية أو مفاوضات للتهدئة ـأو وقف الحرب.
من هنا تتضح الفجوة الكبيرة بين افتراضات المضمون الليبرالي (المشاركة والحماية والمنع والتعافي) في أجندة النساء والسلم والحرب، وبين واقع مجتمعاتنا التي تعاني من حروب وأزمات متكررة. هذه الأجندة التي تفترض أن النساء من الممكن أن يكن فاعلات في إحلال السلم والأمن ولكن لا تعترف بمساهماتهن اليومية في الحفاظ على النسيج المجتمعي وفي مساندة المجتمعات المكلومة والمدمرة بفعل الإبادة الممنهجة والتدمير المتواصل. أي أن النساء موجودات في القاعدة وفي العمل المجتمعي ومفقودات تماماً من صنع القرارات المهمة.
في المقابل تعترف الرؤية النسوية للمرأة والسلم والأمن بخلل أساسي في موازين القوة الدولية والوطنية والمجتمعية. على المستوى الدولي هناك استخدام لحق النقض الفيتو وهناك قوة مهيمنة ودولة مارقة لا يمكن اخضاعها للقانون الدولي أو أي منظومة محاسبة، وعلى المستوى الوطني هناك خلل في سيطرة فئات معينة على السلطة دون تجديد الشرعيات ودون إدماج للنساء في أي قرارات مصارية أو مواقع لصنع القرار، وعلى المستوى المجتمعي مازالت فجوات النوع الاجتماعي تتعمق وتستثني النساء والشباب، وتستخدمهن من خلال دورهن الإنجابي. من هنا يركز النقد النسوي لأجندة السلم والأمن على أنه بدلاً من استجلاب قوالب جاهزة أو محاولات يائسة "تجميلية" لوضع نساء لا يملكن رؤية نسوية ويتماهين مع القوة المهيمنة، في أماكن مهمة كالسلك الدبلوماسي ـأو الوزارات أو القضاء، لابد من بالاعتراف بدور النساء في حماية النسيج المجتمعي، بعيداً عن المصالح الفئوية والحزبية والطائفية الضيقة، وأن هؤلاء النساء ومؤسساتهن هن من يجب أن يمثلن مجتمعاتهن أثناء الحرب ومرحلة التعافي وفي إعادة الإعمار وأي مفاوضات لإنهاء الحرب أو لترسيخ الأمن والسلم. هي رؤية تعمل على تجاوز الظلم التاريخي واللامساواة الجندرية في مجتمعاتنا ولكنها أيضا تدرك أن معاناة الحروب تطال جميع أفراد المجتمع، رجالا ونساء وأولاد وبنات، بعيدا عن شيطنة رجالنا وتصويرهم كأنهم متطرفين وعنيفين وأن نساءنا هن الضحايا الباكيات.
رؤية نسوية للأمن والسلم تدرك أن موازين القوى تتجاوز الحروب على الأرض، وتأتي على شكل يد ممتدة بالمساعدات الإنسانية وأخرى تواصل بيع الأسلحة المستخدمة في الحرب، أو ترتفع لتستخدم حق النقد الفيتو في مجلس الأمن لمنع قرار وقف الحرب. قرارات السلم والأمن لا يمكن أن تتم في ظل نظام عالمي أحادي يستمع لرواية واحدة ويرفض الاعتراف بأي رواية أخرى، بل ويلقي بعبء السرديات على أولئك الذين يعانون من ويلات الحرب، ولا تكفي دماءهم ولا أشلاءهم ولا بيوتهم المدمرة لترسيخ سردية مختلفة.
لن تنجح أفضل الخطط المكتوبة لأجندة المرأة والسلم والأمن بقيادة وكالات الأمم المتحدة وشراكة رمزية من المؤسسات الحكومية وغير الحكومية في تغيير واقع أن هذه المنطقة تعاني من أكبر فجوة جندرية في العالم، وأن النساء والشباب بكافة أطيافهم مغيبون تماما عن القرارات المهمة، وأن المجتمع المدني مكبل ومغلق وأن الأفواه مكممة بحجة الحفاظ على الأمن، وأن التداول السلمي للسلطة والانتخابات الدورية العادلة والنزيهة هي حلم بعيد المنال، وأن الشباب الذين يشكلون ما يزيد عن 50% من مجتمعاتنا لا يجدون متنفسا لطاقاتهم وإمكانياتهم فيهربون بقوارب الموت بحثا عن حياة أفضل، فيأتي التمويل عبرة أجندة المرأة والسلم والأمن ليحارب التطرف والإرهاب والعنف في برامج شكلية لا تغير شيئا في حياة المجتمعات.
البدائل من منظور نسوي متاحة، وضد الحروب بكافة أشكالها ولكن مع إحقاق العدالة والمساوة وتمتع المجتمعات بحقوقها على أرضها وممارسة حياتها بدون "شيطنة" والبناء على ما "يجمعنا" لا على "ما يفرقنا"، بعيداً عن قوالب جاهزة وضمن سياقات محلية وطنية تحافظ على خيارات الجميع.
في ظل الانتهاكات المتواصلة لحقوق الانسان والقانون الدولي الإنساني أثناء الحرب على غزة ولبنان، وعجز المنظومة الدولية عن إيقاف الجرائم ضد الإنسانية تتضح معالم انهيار النظام العالمي كما عرفناه منذ الحرب العالمية الثانية والذي حرص دوماً على توازنات دقيقة وخطوط حمراء لا يمكن تجاوزها، حان الوقت لرؤى نسوية بديلة للسلم والأمن يتم تطويرها محلياً وليس للحفاظ على توازن قوى وهمي، هذه الرؤى تتحدى أنظمة القمع والسلطة القائمة والتي تعمل على ربط حقوق الانسان والقانون الدولي الإنساني والمساعدات الانسانية بمصالح الطرف الأقوى وليس بمصالح شعوب الأرض. حان الوقت لتحالف الشعوب والحركات النسوية في وجه الهيمنة وللحفاظ على الحقوق المتأصلة بإنسانيتنا.