جذور الأزمة الأمنية
يعاني العراق منذ تغييرات 2003 وإلى الآن من مشاكل عدة، ومن أزمات متراكمة، تأتي المشاكل/الأزمات الأمنية في مقدمتها، فقد كان تفجير مكتب بعثة الامم المتحدة في بغداد في 19 آب واستهداف رئيسها السيد سيرجو ديميلو مع عدد من الموظفين، وما تلاه من تفجير النجف الذي حدث في 29 آب 2003 مستهدفاً آية الله محمد باقر الحكيم الزعيم الروحي للمجلس الإسلامي الأعلى، إيذاناً ببداية المرحلة الدموية في العراق، وهي مرحلة بدأت بحرب المفخخات التي استمرت طوال أكثر من عشر سنوات، وتخللها الاقتتال الطائفي سنة 2006 وما نجم عنه من صدوع مجتمعية وأمنية بالغة العمق، ثم العمليات المسلحة ضد الوجود الأمريكي والتي حملت عنوان مقاومة المحتل، وأخيراً احتلال عصابات داعش لثلث الأراضي العراقية.
وقد ذهبت جهود الحكومات العراقية المتعاقبة للخروج من الخانق الأمني أدراج الرياح بسبب تعقيدات الداخل العراقي، واستغلال هذه التعقيدات من قبل دول الجوار، والدول الكبرى، واستثمارها لتصفية حساباتها مع بعضها البعض. وهكذا وجدت هذه الحكومات نفسها أمام تحدٍ كبير يفوق قدرات دولتها المتزعزعة وغير متكاملة البناء، يتمثل بحاجتها إلى إقناع أطراف النزاع إلى ضرورة اللقاء من أجل التحاور وتخفيف حدَّة التوتر بينها، أو إبعاد العراق عن دائرة نزاعاتها. وذلك عبر عمليات دبلوماسية أو مخابراتية جمعت الأطراف على طاولة الحوار مرة تلو الأخرى، وعلى مدى أكثر من خمس سنوات عملت خلالها حكومات؛ العبادي ثم عبد المهدي ثم الكاظمي على هذا الملف دون تحقيق شيء على الأرض.
من الحوارات السرّية إلى الحوار العلني
على أساس ما تقدم فقد جاءت قمَّة بغداد كخطوة مكمَّلة من قبل حكومة الكاظمي تنهي عبرها مجموعة الجولات غير المعلن عنها من عمليات جمع الفرقاء للتحاور، سواء بين السعودية وإيران، أو بين أمريكا وإيران. وكان من المخطط له أن تتبلور نتائج تلك الجولات عبر لقاء قمَّة لا يجمع هذه الأطراف الثلاثة فقط، بل ومجموعة أخرى من دول المنطقة شريكة بالتوتر كسوريا وقطر وتركيا، أو معنية بالتخفيف من حدَّته، كمصر والإمارات والأردن. لكن للأسف لم تمر هذه العملية كما خُطّط لها، فهذه القمَّة التي حضرتها وفود 9 دول لم تكن بمستويات من التمثيل تؤهلها لذلك. فبينما حضر القمة زعماء قطر والإمارات والأردن ومصر وفرنسا، لم يحضر زعماء إيران والسعودية وتركيا، وهذا ما أحبط الهدف الأساس من هذا الحدث، الذي خططت له حكومة العراق بالتنسيق مع الحكومة الأمريكية، وبمساعدة الدبلوماسية الفرنسية.
لقد بدأ الارتباك يطفوا على السطح عندما غادر رئيس الوزراء الكاظمي بغداد متوجها إلى الكويت في حدث اثار استغراب المراقبين. فالكاظمي وحكومته كانوا مشغولين بالاستعداد للقمَّة، التي كانت على الأبواب، ولم يكن من الطبيعي أن يُضمن جدول أعماله زيارة دولة أخرى، إلا إنها كانت زيارة واقعة في سياق محاولة تلافي خلل يوشك أن ينال من سير عملية إنجاح القمة التي يعمل عليها. وهذا ما تسرب من خلف الكواليس، فالكاظمي الذي بدأ يعجز عن اقناع زعماء السعودية وإيران على حضور القمّة لم يجد أمامه غير الكويت، التي لعبت باستمرار دوراً محورياً في تخفيف حدَّة التوتر بمنطقة الخليج، كما حصل مؤخراً في ملف التوتر بين قطر والسعودية، ولذلك جاءت الزيارة للاستعانة بها من أجل العمل على اقناع السعودية، على الأقل، بحضور القمَّة بمستوى تمثيل يساعد على إنجاحها. لكن كانت الصدمة كبيرة عندما أوفدت الكويت نفسها رئيس مجلس وزراءها، وهذا ما خفض مستوى التمثيل حيث أوفدت السعودية وإيران وتركيا وزراء خارجيتها.
بيان ختامي يؤكد فشل جهود تخفيف التوتر
ازاء انخفاض مستوى التمثيل من جهة، وامتناع الدول المعنية بالحوار من جهة أخرى، اضطرت الحكومة العراقية إلى التحول بالحدث من كونه قمة على مستوى زعماء يلتقون للحوار وتخفيف النزاع، إلى كونه مؤتمر للتعاون والشراكة يغلب عليه الطابع الاقتصادي دون أن ينتج أي مخرجات اقتصادية يعول عليها أو تكون بمستوى الحدث وأهميته.
رغم هذه التطورات المخيبة للآمال، إلا أن الحكومة نجحت في تنظيم لقاء استثنائي جمعت عبره الأضداد في عاصمتها، في ظروف أمنية معقدة ووقت بالغ الحساسية تعيشه نتيجة اقتراب موعد الانتخابات المبكرة المقرر عقدها في أكتوبر المقبل.
في مؤتمره الصحفي لم يتطرق وزير الخارجية العراقي، وكما كان يتوقع الجميع إلى موضوعات كالحوار وتخفيف التوتر وجمع المتنازعين على طاولة واحدة، إنما اكتفى بالتطرق إلى مجموعة من القضايا يتعلق أكثرها بدعم بلده، فضلاً عن التركيز على أن بغداد استطاعت جمع أطراف كانت بينها خلافات ومشاكل بالغة التعقيد.
وقريباً من موقف وزير الخارجية كان حال البيان الختامي للمؤتمر، فهو الآخر جاء على غير ما كان متوقعاً منه، فهو لم يتطرق إلى القضايا الجوهرية والأكثر أهميَّة كما هو الحال بخصوص العمليات العسكرية التي تقوم بها تركيا وإيران على الحدود العراقية، ولا تطرق لموضوع الجماعات المسلحة التي تعمل في أراضيه تنفيذاً لأجندات دول مجاورة، كما أنه غفل الإشارة إلى طرح أية آلية لتخفيف التوتر بين الدول المجاورة له، أو بين بعضها وبين الولايات المتحدة.
وحتى بالنسبة للأزمات الاقتصادية لم يتطرق البيان الختامي إلى أزمة المياه التي تهدد العراق بسبب تركيا وإيران، ولا تناول أزماته مع الكويت.
إن افتقار البيان الختامي للمؤتمر إلى معالجة هذه القضايا، يؤكد أن جولة أخرى من جولات الحكومات العراقية التي خاضتها من أجل إقناع المتنازعين على ساحتها بضرورة نقل ساحة الصراع خارج بلادها قد فشلت أو أنها لم تحقق المطلوب بالشكل الذي كانت تخطط له.
مع ذلك لم يخل المؤتمر من تحقيق أهداف ومساع سياسية غاية بالأهمية، فبالإضافة إلى النجاح الدبلوماسي الكبير الذي حققته حكومة الكاظمي، بمساعدة واضحة من قبل الدبلوماسية الفرنسية، جاء لقاء الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مع أمير قطر الشيخ تميم بن حمد، ليمثل نجاحاً مهماً، كما هو الحال مع لقاء رئيس وزراء الإمارات محمد بن راشد آل مكتوم مع أمير قطر، وهي لقاءات عكست انطباعات إيجابية عن المؤتمر وأكدت الدور الذي يمكن أن يلعبه العراق لو سمحت له الظروف الإقليمية والدولية.
الصدى الإعلامي والتفاعل الاجتماعي
على المستويات الاجتماعية والاقتصادية، لم يكن للمؤتمر آثار مهمَّة أو طويلة الأمد ويمكن تلمسها عبر مشاريع اقتصادية تنعكس بشكل مباشر أو غير مباشر على المجتمع، فأقل ما كان متوقعاً، أن تتم عملية مناقشة أزمة المياه مع الجارتين تركيا وإيران، وهي أزمة تنعكس بشكل مباشر على الواقع الزراعي والبيئي وحتى الصحي، فبالاضافة إلى المساحات الكبيرة التي يفقدها العراق من أراضيه الزراعية، والتي تقدر بـ100 ألف دونم سنويا، بحسب تأكيدات لجنة الزراعة والمياه النيابية، هناك الأثر البيئي الذي يخلفه التصحر، والصحي الذي يخلفه نقص المياه وارتفاع منسوب الاملاح في شط العرب ما ينعكس بشكل مباشر على توفر مياه الشرب في مدينة البصرة مثلا، التي شهدت في عام 2018 حالات تسمم وقع ضحيتها ما يقارب 118 الف حالة بسبب نقص المياه وارتفاع نسب الملوثات فيها، بحسب تصريحات مفوضية حقوق الإنسان العراقية .
إن غياب المعالجة لمثل هذه القضايا في المؤتمر أثر سلباً على واقع التفاعل الاجتماعي الذي سبق القمة، ورافق يوم انعقادها. فما أن أعلن البيان الختامي حتى بدأت ردود أفعال الخبراء الاقتصاديين والاجتماعيين تتوالى كاشفة عن خيبة الامل بضياع فرصة كبيرة يمثلها المؤتمر، على العراق، الذي كان يمكن له أن يستثمره بشكل أكثر براغماتية، لحل قضايا يصعب حلها عبر اللقاءات الثنائية، يضاف إلى ذلك فرصة وجود الوساطة الفرنسية، وثقل دبلوماسية باريس، وهو ثقل كان يمكن استثماره على الأقل للضغط على تركيا من أجل الأخذ بنظر الاعتبار تراكم الأزمات في العراق والتعامل معها بجدية أكثر.
إن الخيبة التي تسبب بها عدم قدرة العراق على استثمار المؤتمر لحلحلة قضاياه الاقتصادية فضلاً عن الأمنية عبر المؤتمر، انعكست بشكل واضح على عدم تفاعل الكيانات السياسية. فهذه الكيانات لم تدلِ باي تصريح بمستوى الحدث، باستثناء تصريحين خجولين صدرا من تيار الحكمة والتيار الصدري على لسان قياداتهما. ولو كان للمؤتمر نجاحات واضحة لاضطرت الكيانات السياسية إلى التعامل معها بوضوح أكبر، على الأقل مراعاةً للرأي العام الذي راقب الحدث باهتمام بالغ.
فيان الشيخ علي