Sep 10, 2024
عندما تطيح الكوارث المناخية بالمكتسبات الاجتماعية والتنموية - حبيب معلوف
حبيب معلوف
كاتب وصحافي بيئي

الرجاء الضغط هنا لنبذة والمنشورات
حبيب معلوف

عندما تطيح الكوارث المناخية بالمكتسبات الاجتماعية والتنموية - حبيب معلوف


فرضت قضية تغيُّر المناخ نفسها على المجتمعات والحكومات بما هي كوارث مناخية متنقلة ومتفاقمة، لم ولن تسلم منها أي بقعة مأهولة وغير مأهولة على وجه الأرض. قضية تتجاوز حدود الأوطان وحدود المجتمعات والفئات الاجتماعية. قضية بكلفتها البيئية والإنسانية والاقتصادية، ستطيح بكل مكتسبات التنمية التي عرفتها البشرية. آثارها مدمرة لكل القطاعات، لاسيما القطاع الصحي، ليس بسبب زيادة الوفيات الناجمة عن زيادة حرارة الأرض وما يسمى "الإجهاد الحراري" أو بسبب الموت من الفيضانات وزيادة قوة الأعاصير فحسب، بل بسبب الآثار المدمرة على الحياة من خلال زيادة تلوث كل شيء، لاسيما الهواء الذي يُعتبر القاتل الأول والصامت على المستوى العالمي. وقد أثبتت الكثير من الدراسات والتقارير الدولية أن أكثر الوفيات حول العالم من وباء "كورونا" أتت من أشخاص كانوا يعانون من مشاكل تنفسية ناجمة بدورها (في معظمها) عن تلوث الهواء أيضًا، مع العلم أن معظم أسباب تلوث الهواء (الناجمة بشكل أساسي عن انبعاثات قطاعي النقل وإنتاج الطاقة بشكل رئيسي) هي نفسها من أهم أسباب تغيُّر المناخ والتسبب بكوارث مناخية.


لا تميز الكوارث المناخية بين ضحاياها، وقد تم إثبات أنها إنسانية، ناجمة عن أعمال إنسانية (خلافًا للكوارث الطبيعية) بنسبة تتجاوز 98%، حسب التقارير الدولية ذات الصلة. ولكن قدرة التكيف مع هذه الكوارث ليست هي نفسها عند كل الشعوب والدول. فالدول المتقدمة والغنية لديها قدرات أكبر على التكيف مع الكوارث وإنقاذ الأرواح ومعالجة النتائج من البلدان النامية والفقيرة. كما أن هذه الدول لا تتساوى في تحمل مسؤولية التسبب بها.


فالدول المتقدمة التي شهدت الثورة الصناعية تتحمل مسؤولية تاريخية عن الانبعاثات العالمية أكثر من البلدان النامية. ويعتبر هذا التمايز في المسؤوليات وفي أثر الكوارث من أهم تحديات العدالة المناخية التي أقرتها الاتفاقيات الدولية. إلا أن مفهوم "العدالة المناخية" الذي تبنته الأمم المتحدة لا يشمل العدالة بين الأجيال. وفي هذه الحالة، يمكن القول إنه ليس من العدل أن يستهلك ويستنزف جيلين أو ثلاثة موارد ناضبة أو نادرة، تشكلت عبر ملايين السنين (بمئات السنين)، وأن تتسبب حياة الرفاهية لبعض الشعوب بانبعاثات تضر بباقي الشعوب وتهدد ديمومة الحياة على وجه الأرض. من هنا كان يفترض أن تكون مطالب الشعوب والدول، لاسيما تلك المصنفة نامية، ليس الحق في التنمية عبر اتباع نفس النموذج التنموي المسيطر والمتسبب بالكوارث المناخية، بل بتراجع البلدان المتقدمة عن نموذجها الحضاري والتنموي المتسبب بالتغييرات المناخية. وعند ذلك لا يصبح المطلب "انتقال الطاقة"، أي الانتقال من استخدام مواد ناضبة (مثل الوقود الأحفوري) إلى مواد نادرة (الأتربة النادرة التي تصنع منها الطاقة المتجددة)، بل المطلب التعايش والعيش مع نظام حضاري أكثر عدلًا بين الناس ومع الطبيعة يعتمد على العيش مع طاقة أقل. ويصبح المطلوب حقًا وعدلًا، تراجع البلدان المتقدمة عن نموذجها الحضاري المدمر للموارد والمتسبب بانبعاثات وكوارث، نحو نموذج مستدام أكثر تواضعًا وأقل تحديًا للطبيعة، وقد تخلى عن عقد حب السيطرة.


ولكي يتحقق ذلك، على النظام الحضاري الجديد ما بعد الكوارث المناخية أن يغير أيضًا من ساعات العمل وتطبيق مبدأ "أن نعمل أقل لكي نعمل جميعًا"، يُضاف إليه مبدأ جديد "نعمل أقل ونستهلك أقل"، أي أن نعمل أقل (ومن المنزل أكثر وأكثر) لكي نستهلك أقل من الطاقة ومن استخدام الطرق والوقود ونخفف بدلًا من أن نزيد من الانبعاثات. تمامًا كما حصل مع تجربة تجنب وباء "كورونا"، إذ ألزمت هذه الكارثة الناس بالتباعد والتزام البقاء في المنازل والعمل منها، مما انعكس تحسنًا في انخفاض نسبة الانبعاثات العالمية وفتح الطريق لتبني نظم عملية مختلفة، لاسيما في ما يسمى العصر الرقمي والتواصل الاجتماعي. بالإضافة إلى ضرورة التخلي عن كل زيادة غير ضرورية في الإنتاج والاستهلاك، ووضع ضرائب متصاعدة على الموضة والتسويق المتسبب بخلق حاجات غير ضرورية وغير أساسية والتي تتطلب المزيد من العمل لتعظيم القدرة على المزيد من الاستهلاك… وخلق عادات جديدة موفرة تعطي القيمة لما هو "ضائع" من السلع وليس لما هو "جديد" منها. وبالتالي التخفيف من استخراج الموارد والتقليل من الانبعاثات المتسببة بالكوارث. وهو الموضوع نفسه الذي ينطبق على النظم الغذائية التي تستهلك الكثير من اللحم والتي تتطلب قطع الكثير من الغابات وتوسيع زراعة الأعلاف الحيوانية والتسبب بالمزيد من الانبعاثات مع تدمير الغابات التي تعتبر مصارف للكربون. والعودة إلى نظم الزراعة القديمة غير الصناعية والمكثفة.


انطلاقًا من ذلك، لن تحل قضية تغيُّر المناخ عبر المفاوضات الدولية التي بدأت بعد إبرام أول اتفاقية إطارية لتغيُّر المناخ في قمة الأرض في ريو عام 1992 ولا عبر اجتماع دول الأطراف السنوي الذي بدأ عمليًا عام 1995 (الاجتماع الـ29 هذا العام في أذربيجان)، إلا إذا تم تغيير جدول الأعمال ومنهجية التفاوض بين الدول وأضفنا إلى محاور ومقولات التخفيف والتكيف والتمويل… البحث في بنية الأنظمة المسيطرة والبحث في أساس المشكلة المتمثلة في النظام الاقتصادي العالمي المسيطر، أي اقتصاد السوق القائم على المنافسة. وهذا التحول لن تقوم به الأنظمة المسيطرة والمسيطر عليها من قبل قوى السوق العالمية العابرة للقوميات والحدود. ولذلك أصبح الرهان على القوى المجتمعية المحلية والعالمية من نقابات وقوى إنتاج صغيرة (زراعية وحرفية) ومنظمات غير حكومية لا تزال تعتبر نفسها قوة ثالثة بين الأنظمة السياسية والقطاع الخاص، الأقرب إلى تمثيل مصالح المجتمعات والمؤتمنة على ديمومة الموارد وحقوق الإنسان الحالي والأجيال القادمة.


وانطلاقًا من مبدأ فلسفي قديم كان يقول "لا يدرك الشبيه إلا الشبيه"، والذي يفترض أن يترجم في موضوعنا بعدم القدرة على مواجهة كوارث تتصف بالشمولية والعالمية إلا بأفكار وقيم وإجراءات شبيهة، أي شاملة وعالمية. وهذا يتطلب تغيير مبدأ "فكر عالميًا واعمل محليًا"، بمبدأ أصعب "فكر عالميًا ومحليًا واعمل عالميًا ومحليًا". مع الإشارة إلى أن تعبير محلي يمكن أن يشمل العائلة والحي والوطن والإقليم. من هنا بات التمييز بين الفئات الاجتماعية، غير ذي جدوى أيضًا إلا من ناحية اعتبار ذلك مقدمة للانطلاق إلى الأرحب والأوسع. تمامًا كما تبدأ وتنتقل الانبعاثات والعواصف والحرائق من المحلية إلى التأثيرات الكوكبية.


تاريخيًا، هناك تجارب شبيهة لجمع مجموعات مختلفة من قوى المجتمع المدني في أوروبا لمواجهة قضايا مصيرية، مثل انطلاق مجموعة الـ90 الخضراء لمناهضة الطاقة النووية في الثمانينيات. أطلق على المجموعة الـ90 لأنها كانت تضم عددًا كبيرًا من قوى المجتمع المدني المهتمة بقضايا متعددة من المرأة إلى التنمية وحقوق الإنسان والسلام، وغيرها، والتي وجدت في قضية التوسع في استخدام الطاقة النووية قضية وجودية تتطلب تحالف كل قوى المجتمع لمناهضتها. كانت انطلاقة هذا التحالف في ألمانيا التي نجحت منذ عامين بإغلاق آخر مفاعل نووي. الآن، تعتبر قضية تغيُّر المناخ قضية وجودية بامتياز، وقد عادت أوروبا إلى التفكير مجددًا في اعتماد الطاقة النووية كبديل عن الوقود الأحفوري، بالرغم من الانتكاسة التي تعرضت لها هذه التقنية الخطرة عام 2011 مع حادثة فوكوشيما في اليابان، إثر انفجار خطير حصل في إحدى مفاعلاتها، لا تزال مفاعيله الكارثية تتفاعل حتى يومنا هذا.


فهل تستطيع قوى المجتمع المدني في المنطقة العربية الآن أن تتصدى لقضية وجودية مثل تغيُّر المناخ، وأن تتقدم بنموذج جديد للتحالف يحمل بُعدًا عالميًا ويقدم أفكارًا وقيمًا من تراث هذه المنطقة تكون منقذة لقضية تغيُّر المناخ العالمي، مثل الكفاية والضيان، بدل الموضة والتنمية، على سبيل المثال؟


حبيب معلوف



احدث المنشورات
Nov 20, 2024
منطقة مشتعلة - العدد ٥٥
Nov 19, 2024
منطقة مشتعلة - العدد ٥٤