حين يُعاقب الصوت لا الجريمة: فرانشيسكا ألبانيز في مواجهة النظام العالمي – جيهان أبوزيد

حين يُعاقب الصوت لا الجريمة: فرانشيسكا ألبانيز في مواجهة النظام العالمي – جيهان أبوزيد
تحليل لتقارير المقررة الخاصة حول فلسطين وآليات كسر الصمت الدولي
لم تكن مجازر صبرا وشاتيلا مجرد خبر عابر في طفولتها، بل الشرارة التي أيقظت وعيها المبكر تجاه فلسطين، وفتحت لها بابًا نحو قضية تتجاوز الجغرافيا لتلامس الضمير الإنساني. انها الباحثة الإيطالية والمحامية الدولية فرانشيسكا ألبانيز التي نشأت في جنوب البلاد وسط أسرة تناقش العدالة كما لو كانت جزءًا من الحياة اليومية.
فرانشيسكا خبرت كيف يُصطدم القانون بجدران الصمت عندما يتحوّل الظلم إلى ممارسة مؤسسية. في كل تقرير خطّته بصفتها مقررة خاصة للأمم المتحدة، كانت تحاول أن تُنقذ العدالة من البيروقراطية، وأن تُعيد للضحايا صوتًا لا تُغطيه اللغة الرمادية.
عاشت فرانشيسكا ثلاث سنوات في القدس، ضمن عملها القانوني في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا). هناك، وسط الأزقة المحتلة، اختبرت عنفًا يوميًا ممنهجًا لا يشبه النزاعات التي درستها في كتب القانون. وصفت تلك التجربة بأنها "صدمة للجسد والروح"، حيث كان الاحتلال يمارس طقوسه القمعية على سكان مدنيين، بينما يعود الجنود إلى حياتهم وكأن شيئًا لم يكن. هذه السنوات خلقت لديها شعورًا داخليًا عميقًا بأن الحياد في وجه الظلم ليس فضيلة، بل تواطؤ.
قبل أن تُعيّن مقررة خاصة للأمم المتحدة، كانت قد عبّرت عن قناعاتها بصراحة: وصفت الاحتلال الإسرائيلي بأنه منظومة استعمارية عنصرية، وانتقدت السياسات الغربية التي تتجاهل الجرائم ضد الفلسطينيين بسبب "عبء الذنب التاريخي" تجاه اليهود. شاركت في تأسيس الشبكة العالمية لقضية فلسطين، وكتبت دراسات عن حقوق اللاجئين والتمثيل القانوني لهم.
وعندما تولّت منصبها الأممي في أيار/مايو 2022، لم تغيّر نبرتها، بل زادتها وضوحًا. تقاريرها لم تكن بيروقراطية رمادية، بل وثائق نابضة بالموقف الإنساني، تُسمّي الإبادة باسمها، وتفكك الاقتصاد الذي يتربّح من الاحتلال. لم تأبه للضغوط السياسية أو العقوبات، بل قالت إن عملها امتداد لتجربة شخصية وشهادة لا تقبل الإنكار.
فرانشيسكا ليست فقط خبيرة دولية، بل امرأة اتخذت من القانون مساحة أخلاقية، ومن فلسطين مرآة لمعنى العدالة، ومن منصبها منبرًا لمن لا يُسمع لهم.
في آذار/مارس 2024، قدّمت فرانشيسكا ألبانيز، بصفتها المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، تقريرًا إلى مجلس حقوق الإنسان بعنوان "تشريح الإبادة الجماعية"، لم يكن مجرد وثيقة قانونية، بل إعلانًا صريحًا بأن ما يحدث في غزة تجاوز حدود الحرب إلى جريمة إبادة جماعية ممنهجة. التقرير استند إلى وقائع دامغة-آنذاك-، منها مقتل أكثر من 32,000 فلسطيني، بينهم 13,000 طفل، وتهجير 80% من السكان، وتدمير 70% من المناطق السكنية، فضلًا عن تعرّض مليوني شخص للجوع المتعمد، وكلها بيانات موثقة حتى مطلع عام 2024.
لكن الأثر الحقيقي للتقرير لم يتوقف عند أروقة الأمم المتحدة، بل امتد إلى ساحات المناصرة الدولية. فقد استندت إليه منظمات حقوقية بارزة مثل العفو الدولية (Amnesty International)، والمرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، ومركز الميزان، والتحالف العالمي من أجل فلسطين، في حملاتها التي طالبت بوقف تصدير الأسلحة لإسرائيل، وفرض عقوبات على المسؤولين المتورطين، ومساءلة الشركات الداعمة للاحتلال. كما استخدمه منبر Jewish Voice for Peace في الولايات المتحدة لتفنيد الإتهامات الموجهة لألبانيز، والتأكيد على أن انتقاد الإحتلال لا يعني معاداة السامية. ورغم أن التقرير واجه رفضًا سياسيًا من إسرائيل والولايات المتحدة، إلا أن الوثيقة أصبحت مرجعًا قانونيًا وأخلاقيًا في المحافل الحقوقية، واستُشهد بها في مرافعات أمام المحكمة الجنائية الدولية، وفي جلسات برلمانية أوروبية، وفي حملات إعلامية تطالب بوقف الإبادة المستمرة في غزة. وتحوّل من وثيقة أمميّة إلى أداة مقاومة قانونية وأخلاقية، تُستخدم في مواجهة الصمت الدولي.
من الاحتلال إلى اقتصاد الإبادة: تقرير يُعيد تعريف الجريمة
حين اختارت فرانشيسكا ألبانيز عنوان تقريرها الثاني لمجلس حقوق الإنسان في حزيران/يونيو 2025: "من اقتصاد الاحتلال إلى اقتصاد الإبادة الجماعية"، لم تكن تصوغ مجرد عنوان جذّاب، بل تُؤسّس نحتًا مفاهيميًا جديدًا في الخطاب الحقوقي الدولي. فبينما اعتادت الأدبيات القانونية توصيف الاحتلال الإسرائيلي كمشروع توسعي مدعوم اقتصاديًا، جاء التقرير ليعلن أن الاحتلال تحوّل إلى منظومة ربحية قائمة على الإبادة الجماعية، تُشارك فيها شركات متعددة الجنسيات، ومؤسسات مالية وتكنولوجية وأكاديمية.
التقرير لا يوثّق الجرائم فحسب، بل يُفكّك البنية الإقتصادية التي تُحوّل أدوات القتل والتهجير إلى سلعة قابلة للتسويق. ويُظهر كيف تحوّلت غزة إلى مختبر ميداني تُجرّب فيه التقنيات العسكرية، ثم تُسوّق عالميًا بأنها "فعالة ومجرّبة".
استنادًا إلى بيانات موثقة، أشار التقرير إلى أن إسرائيل ألقت أكثر من 85,000 طن من القنابل على غزة في أقل من عام، ما أدى إلى سقوط أكثر من 179,000 ضحية، ودمّر نحو 70% من البنية التحتية و81% من الأراضي الزراعية. كما كشف تورّط أكثر من 60 شركة عالمية في دعم الاحتلال، بينها شركات أسلحة (Elbit Systems, Lockheed Martin)، شركات تكنولوجيا (Microsoft, Amazon, Google)، وشركات معدات ثقيلة (Caterpillar, Volvo)، إلى جانب مؤسسات أكاديمية بارزة (MIT, TUM, Edinburgh).
وفي الجانب المالي، أشار التقرير إلى أن مؤسسات كبرى مثل BlackRock وVanguard وBNP Paribas استثمرت أكثر من 13 مليار دولار في سندات إسرائيلية منذ أكتوبر 2023، رغم علمها بأن هذه الأموال تُستخدم في تمويل الجيش الإسرائيلي.
إن قوة التقرير لا تكمن فقط في جرأته، بل في نقله النقاش الحقوقي من مستوى الانتهاك إلى مستوى البنية، إذ يُظهر أن الإبادة الجماعية ليست انحرافًا، بل نتيجة منطقية للنظام العالمي حين تغيب الإرادة السياسية ويُمنح العنف غطاء قانوني أو صمت دولي. وقد دعم هذه المقاربة باستحضار نماذج مثل جرائم الروهينغا في ميانمار، وغزو العراق عام 2003، كمؤشرات على تواطؤ الشرعية الدولية مع مشاريع الإبادة.
في ضوء هذا التفكيك، قدّم التقرير سلسلة من التوصيات الدقيقة: مساءلة الشركات والمديرين التنفيذيين أمام القضاء، كما حدث مع الصناعيين الألمان بعد الحرب العالمية الثانية؛ وقف التعاون الأكاديمي مع المؤسسات المتورطة؛ مراجعة المناهج المطبّعة مع الاحتلال؛ وتفعيل الضغط الشعبي عبر المقاطعة وتحويل التقارير الحقوقية إلى أدوات تعبئة حقيقية.
لكن رغم هذا العمق، يُظهر التقرير ثغرات منهجية تُضعف تأثيره القانوني: أبرزها غياب التوثيق الميداني المباشر، وعدم تصنيف مستويات تورّط الشركات، وعدم تحليل ردود 15 شركة تواصلت رسميًا مع مكتب المقررة.
الأكثر إشكالية، وربما الأكثر تأثيرًا، هو استبعاد التقرير لدور الحكومات التي ترعى وتُنظّم عمل الشركات المتورّطة. فرغم أن هذه الحكومات تُصدر التراخيص وتُوقّع الاتفاقيات وتُوفّر الحماية القانونية، لم يُوجّه لها التقرير أية مساءلة مباشرة أو توصيات واضحة. هذا الغياب يمنحها حصانة سياسية غير مبررة، ويُبقي المساءلة منقوصة، تركّز على الأداة دون من يُحرّكها.
وبالتالي، فإن تقرير ألبانيز يُعد وثيقة مفصلية في مساءلة القطاع الخاص، لكنه يحتاج إلى توسعة أكثر جرأة، تُدرج الحكومات في خارطة المسؤوليات، ليُعاد تعريف الجريمة كمنظومة عابرة للشركات والدول والمؤسسات الدولية على حد سواء.
العدالة في مرمى العقوبات
في التاسع من تموز/يوليو 2025، فُرضت عقوبات مباشرة على المقررة الخاصة للأمم المتحدة فرانشيسكا ألبانيز من قبل الولايات المتحدة، لتُصبح بذلك أول خبيرة أممية تتعرض لاستهداف سياسي علني بهذا الشكل. وقد أُدرج اسمها ضمن قوائم العقوبات بموجب أمر تنفيذي صادر عن إدارة الرئيس دونالد ترامب، تضمّن تجميد أصولها المحتملة، ومنعها من دخول الأراضي الأمريكية، وحظر تعاملها مع المؤسسات الرسمية والمالية الأمريكية. ورافق ذلك تصريح تشهيري من وزير الخارجية ماركو روبيو، وصف فيه ألبانيز بأنها "تشن حربًا غير مشروعة ضد إسرائيل والولايات المتحدة"، كرد على تقريرها الذي طالب بمساءلة شركات ومسؤولين أمريكيين وإسرائيليين أمام المحكمة الجنائية الدولية بتهمة دعم الإبادة الجماعية في غزة.
هذا الاستهداف لا يُعد مجرد رفض لتقرير أممي، بل يشكّل هجومًا سياسيًا على استقلالية المقررين الخاصين، الذين يُفترض أن يكونوا محصّنين من ضغوط الحكومات. وقد عبّرت الأمم المتحدة عن "أسفها الشديد"، واعتبرت العقوبات "سابقة خطيرة وغير مقبولة"، مؤكدة أن المقررين يعملون وفق القانون الدولي وليس لإرضاء الدول.
ومنذ تولّيها منصب المقررة الخاصة في أيار/مايو 2022، واجهت ألبانيز ضغوطًا مستمرة من إسرائيل والولايات المتحدة، شملت منعها من دخول الأراضي المحتلة، واتهامها بالتحيز ومعاداة السامية. ورغم أن الخبراء يُعيّنون عبر ترشيحات دولية تُقرّها الأمم المتحدة، فإن الضغط السياسي يُمارَس كحصار وظيفي غير رسمي، يدفع نحو إنهاء ولاياتهم أو تجميدها.
العقوبات التي استهدفت ألبانيز أظهرت أن كشف الجرائم، حين يصطدم بمصالح الدول الكبرى، قد يُقابل بالتأديب السياسي بدلًا من المحاسبة القانونية. وقد أثارت تلك العقوبات موجة تضامن دولية، إذ اعتبرتها منظمات مثل العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش محاولةً لإسكات صوت قانوني مستقل. كما أكدت منظمة Jewish Voice for Peace أن ألبانيز "لم تُعاقب لأنها أخطأت، بل لأنها سمّت الإبادة الجماعية باسمها".
على مستوى الحملات، أُطلقت عرائض إلكترونية جمعت آلاف التوقيعات، وطالبت برفع العقوبات فورًا. كما نُظّمت ندوات ومداخلات في البرلمان الأوروبي والجمعية العامة، دعت إلى حماية قانونية إضافية للخبراء الأمميين من ترهيب الدول الكبرى. في الأوساط الأكاديمية، اقترح باحثون إنشاء ميثاق أممي أخلاقي يمنع استهداف المقررين، ويضمن حرياتهم في التعبير والتقرير دون تهديد بالإقالة أو العقوبات.
هذه الحملة ضد ألبانيز ليست مجرد رد فعل على تقرير، بل تُعبّر عن هشاشة استقلالية العدالة الدولية حين يُواجه صوت الحقوق بالترهيب بدلًا من الاحتكام للقانون. ومن هنا، تُصبح قضية ألبانيز مرآة تكشف حجم التواطؤ الذي يُخيم على المنظومة الأممية كلما اقترب الخطاب الحقوقي من مصالح الأقوياء.
احدث المنشورات

مؤتمر بون المناخي يظهر وعورة الطريق نحو COP30 في البرازيل - حبيب معلوف
