المغرب: التحديات في ضوء العواصف التي يعيشها العالم العربي - د. جمال بندحمان
المغرب: التحديات في ضوء العواصف التي يعيشها العالم العربي - د. جمال بندحمان
ظلت مقولة الاستثناء المغربي تتكرر في الإعلام الرسمي باعتباره بلدا بعيدًا عن حالات الاحتقان التي عرفتها الكثير من البلدان العربية منذ بداية العقد الأول من القرن الحالي، لكن حركية الربيع العربي ستكسر ذلك من خلال بروز حركة مطلبية اختارت اسم (حركة 20 فبراير)، وصنفت نفسها خارج دائرة الأحزاب والهيئات النقابية والمدنية، وجعلت مطالبها محددة في ضرورة تحديث شكل السلطة بجعلها أكثر ديمقراطية، وعدم الجمع بين المسؤولية السياسية والعمل الاقتصادي، وانتقاد محدودية أدوار مؤسسات الوساطة الاجتماعية من أحزاب وهيآت مدنية ونقابات، وتوسيع دوائر الحريات الفردية، ومحاسبة المسؤولين عن الشطط في استعمال السلطة...
الحركات الاحتجاجية بدل التغييرات الثورية
لم يكن المغرب من البلدان العربية التي عرفت ثورات الربيع العربي مثل مصر وتونس وليبيا، بل عرفت حركة احتجاجية قوية أفضت إلى إنجاز إصلاحات دستورية اعتبرت حينها (2011) مكسبا أساسيا استجاب للكثير من المطالب مثل توسيع صلاحية رئيس الحكومة، والاعتراف بتعدد مكونات الهوية المغربية، وإقرار حقوق المعارضة، ودسترة اللغة الأمازيغية، و توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، وإقرار التمييز الإيجابي في قضايا النوع الاجتماعي، وفصل السلطات، وإلزامية تعيين رئيس الحكومة من الحزب الفائز بالمرتبة الأولى وغيرها من المكتسبات التي أفضت في نهاية المطاف إلى إجراء انتخابات سابقة لأوانها كان الفوز فيها من نصيب حزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الإسلامية؛ مما عد تغييرا هادئا أفضى إلى التداول على السلطة، ووصول حزب كان مهددا بالحل إلى سدة الحكم.
هكذا بدا أن مقولة الاستثناء المغربي عادت من جديد، وأن مجتمعات الاحتجاجات استفادت من جرعات الديمقراطية أكثر مما استفادت مجتمعات دول الثورات. لكن هذا التقييم الإيجابي سرعان ما اعترضته إكراهات تطبيقية كبرى.
تنزيل الإصلاح: ضعف الإرادة وإكراهات الواقع
يبدو أن مطالب الاحتجاجات التي حركتها عوامل اقتصادية واجتماعية وسياسية انتهت إلى النكوص التاريخي، فبالعودة إلى مطالب الاحتجاجات الربيعية سنلاحظ أن نقطة قوتها كانت في الوقت نفسه نقطة ضعفها. فقد كانت الحركية برمتها خارج دائرة القيادات الحزبية أو النقابية أو المدنية، وبغياب القيادات غابت بالضرورة التنظيرات التي تقارب المواضيع نسقيا باستحضار الواقع وإكراهاته، واستشراف مآلاته بالتفاوض عليها. لذلك كانت الاحتجاجات تبني نفسها في ارتباط بالتحولات اليومية أو الجزئية، ولم تكن الاستراتيجية بعيدة المدى حاضرة، فقد رفعت العديد من المطالب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية بشكل ضبابي وغير مؤطر، بالصورة التي لم تحول المطالب إلى مبادئ تعاقدية أو مشروع مجتمعي بتحديداته الزمنية والإجرائية. بل إن من استفاد من الحركية الاحتجاجية كان خارجها، نقصد بذلك حزب العدالة والتنمية الذي قاد الحكومة لولايتين، ودافع عن اختيارات ليبرالية متوحشة زادت حدة الاحتقان الاجتماعي، وتخلى عن شعاراته الكبرى قطريا، وقوميا؛ فرئيسه هو ذاته الذي وقع اتفاقية التطبيع مع ما يسمى إسرائيل، مما أدى إلى تآكل شرعيته السياسية والأخلاقية.
مع ما لذلك من تبعات قوت انعدام ثقة المواطنين في المؤسسات وشعاراتها... لذلك لم يكن مستغربا أن تعود التساؤلات ذاتها عن ضعف المؤسسات الحزبية بمختلف أطيافها، وبروز مطالب بجعل المسؤولية قرينة المحاسبة، و حد السلطة بالسلطة بواسطة فصل السلطات فعليا، وليس نصيا فقط، و جبر الأضرار الفردية والجماعية بتفعيل توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، وضرورة تحقيق العدالة المجالية التي لاتميز بين المناطق والجهات، ولعل المثال الأبرز لكل ذلك ماعرف بأحداث الريف ( ابتداء من 2016) التي اعتبرت موجة ثانية من الاحتجاجات القوية التي أعادت رفع الشعارات ذاتها التي رفعت من قبل،مع جعلها أكثر ارتباطا بجهة محددة، وليست مطالب وطنية، وهو ما أفضى إلى محاكمات مازالت تبعاتها سارية.
تعدد التحديات في ضوء العواصف
بعد أكثر من عقد من الزمن يطرح الواقع المغربي تحديات كبرى أبرزها:
أولا: تحديات الحكامة(الحوكمة) الترابية التي تستلزم إعطاء الأهمية لعدالة مجالية تقود إلى الاهتمام بجغرافية الضواحي والمناطق المهمشة، مع ربط ذلك بإعادة بناء ثقة المواطن في الإدارة ، وفي مؤسسات الوساطة الاجتماعية من أحزاب ونقابات وجمعيات سواء في إعادة بناء ذاتها انطلاقا من اختيارات مرجعية واضحة، وديمقراطية داخلية نزيهة، أو في فعاليتها، ودفاعها عن استقلاليتها، أو في جرأتها على تبني المواقف المنسجمة مع اختياراتها المرجعية؛
ثانيا: تحديات ذات صلة بالمجال الحقوقي في ظل بوادر انحسار الفعل المدني الذي يعاني إنهاكا كبيرا بسبب حجم المعارك التي خاضها مع غياب أفق واضح للنتائج الممكنة؛ وفي حالات الاحتقان مع جزء من الإعلام الذي تعرض العاملون فيه إلى محاكمات انتهت بأحكام اعتبرت قاسية (توفيق بوعشرين، سليمان الريسوني، عمر الراضي..) وهي المحاكمات التي توصف من قبل منظمات حقوقية دولية بأنها تصفية حسابات، بينما تؤكد الدولة أنها مجرد متابعات بسبب قضايا أخلاقية مع أغيار لهم الحق في المطالبة بما بتيحه القانون؛
ثالثا: تحديات التفعيل العملي لمؤسسات الحكامة الجيدة التي نص عليها دستور 2011، وجعل المسؤولية والمحاسبة اختيارا مبدئيا، والإصرار على أن الديمقراطية التشاركية، التي أقرها الدستور، ليست شعارا، بل إنها اختيار سيسهم،إن فعل، في اعادة زرع روح الثقة بين المواطن والاختيارات العامة في البلاد؛
رابعا: تحديات اقتصادية مرتبطة بإكراه التشغيل في ظل طفرة الانتقال الديمغرافي التي يعرفها المغرب، والاختيارات الحالية التي تتجه نحو التعاقد (عوض التوظيف العمومي) مع ما سيكون لذلك من انعكاسات على كيفية تدبير أمور التقاعد وحقوق العاملين وضمان أمنهم النفسي أو ما أصبح يسمى الأمن الوظيفي الذي فاد الإحساس بانعدامه إلى حركات احتجاجية سنويا أطلق أصحابها عليها اسم (الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد)؛
خامسا: تحديات تدبيرية تتعلق بشروط انجاح ورش الجهوية الموسعة وتبعاتها الإدارية والاقتصادية، والعمل على تنزيل مقتضياتها بشكل يجعلها رافعة للتنمية التي بإمكانها المساهمة في تقليص حجم الاحتجاجات الاجتماعية التي يمكن أن تطفو إلى السطح في مناطق أصبحت أكثر وعيا بحقها الجماعي في التنمية، وأكثر إداراكا أن الاحتجاج الجماعي يحقق مصلحة الفرد ومصالح الجماعة؛
سادسا: تحديات هوياتية في ظل الحضور الآني والمستقبلي للحقوق اللغوية والثقافية باعتبارها جيل المطالب المستقبلية وهو ما يتطلب التنبه إلى إمكان التداخل بين المطالب الاقتصادية والمطالب الهوياتية ؛والعمل على تجاوز منطق تهدئة المطالب بالعمل على صياغة حلول معقولة لقضايا معقولة؛
سابعا : تحديات بيئية ومعيشية تتعلق بكيفية تدبير حالات الجفاف الدوري التي يعرفها المغرب، و لعل أبرز صورها التدبير المائي الذي أصبح سببا في اجتجاجات اجتماعية في مناطق مائية أصلا.
تبدو حركية المشهد المغربي متحركة ودينامية، لكنها في عمقها ثابتة عند حدود معينة، مادامت المشاكل نفسها تراوح مكانها، وتعود بين الفينة والأخرى بمسميات مختلفة، لذلك يحتاج التغلب عليها إلى إرادة مفعلة وليس إلى نصوص فقط:إذ يبدو في الكثير من الأحيان أن الواقع يفوق النص.
الكلمات المفاتيح: الحركات الاحتجاجية-20 فبراير- منطقةالريف- دستور 2011-الحكامة(الحوكمة) -هيئة الإنصاف والمصالحة-التطبيع- حزب العدالة والتنمية- الديمقراطية التشاركية.
د. جمال بندحمان