اسرائيل تفاقم أزمة التغير المناخي وتهدد حياة المواطنين في جنوب لبنان - زهراء نجار
منذ بداية الإبادة في غزة والعدوان الاسرائيلي على جنوب لبنان استمر جيش الاحتلال الاسرائيلي في استخدام "سياسة الارض المحروقة" ،وهي سياسة قديمة، حيث لم يتردد يومًا في ارتكاب المجازر، احتلال الأراضي و تدمير سبل الحياة في المناطق المحتلة لبناء مستعمرات جديدة على أنقاض ضحايا الشعب الفلسطيني .سابقاً لم يكن لوسائل التواصل الاجتماعي وجود لتوثيق هذه المجازر التي استمرت إسرائيل في إنكارها، إنما اليوم ساهم التطور التكنولوجي في كشف وتوثيق ممارسات العدو الاسرائيلي في غزة وجنوب لبنان من استخدام الأسلحة الكيميائية، استهداف المستشفيات، الفرق الإسعافية، الصحافيين ، المدنيين، إضافة الى تدمير كافة القطاعات الانتاجية خاصة المسؤولة عن تأمين الأمن الغذائي و الصحي طيلة الحرب.
تعرف سياسة الارض المحروقة بأنها التكتيك العسكري المتمثل في تدمير كلّ ما يمكّن العدو من شن الحرب، بما في ذلك المحاصيل والماشية والمباني والبنية التحتية.
في لبنان، منذ سبعينات القرن الماضي كانت بداية لجوء اسرائيل للفسفور كسلاح لاستهداف المدنيين والاراضي الزراعية الخصبة وبحسب مقال نشر في صحيفة السفير في تاريخ 31 آب 1979، ونقلاً عن حديث أدلى به اندرو يونغ المندوب السابق للولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة لمجلة نوفيل اوبزرفاتور انتقد فيه بشدة القصف الاسرائيلي واستخدامهم لقنابل الفسفور والقنابل الانشطارية في لبنان معتبرًا انها عمل غير اخلاقي واصفًا سلوكهم بالإرهابي.
آثار الفسفور الصحية:
إن لاستخدام الفسفور ضرر كبير على صحة المواطنين حيث يتسبًّب استنشاقه لفترات قصيرة في الإصابة بالسعال والتهيج في الحلق والرئتين، كذلك في حدوث حالة يطلق عليها اسم” الفك الفوسفوري “الذي يتضمن صعوبة شفاء جروح الفم وتحلل عظم الفك. قد يتسبِّب تناول كميات قليلة من الفوسفور الأبيض أو شربها إلى حدوث أضرار بالكبد، أو القلب، أو الكلى، مع حدوث قيء، أو تقلصات حادة بالمعدة أو الوفاة. وفي حال تلامس الجلد مع الفوسفور الأبيض المشتعل ستسبب ذلك في احتراق الجلد أو في حدوث أضرار بالكبد والقلب والكلى كما قررت وكالة حماية البيئة أن الفسفور الأبيض غير قابل للتصنيف باعتباره عنصرًا يسبب السرطان للكائنات البشرية.
زينب سيدة من جنوب لبنان، التقيناها وعرضت لتجربتها مع القنابل الفسفورية أثناء نزوحها بحثاً عن مكان أكثر أماناً في حرب 2006. تقول: "بينما كنا نهرب من قريتنا التي كانت تتعرض للقصف والتدمير نتيجة الاعتداءات الاسرائيلية إلى قرية ثانية أكثر أماناً وأقل خطرًا، تم قصف الطريق بالقنابل الفسفورية، مما أرعبنا وتسبب في إصابتي. استنشقت الفسفور الأبيض وظهرت لدي أعراض مرضية مثل القيئ والحمى الشديدة. كان من الصعب تأمين الدواء في ظل الوضع الحربي وكنت طيلة الفترة الحرب أعاني ممَّا أنهك جسدي كثيراً. كانت أمي طيلة فترة الحرب تخاطر بحياتها لتأمين الدواء والعلاج اللازم. إن هذا اليوم من الايام الاصعب التي مرت في حياتي رغم مرور 18 سنة إلا أنني اتذكر هذا اليوم بتفاصيله ودائماً أفكر بأنني كان من الممكن أن أفقد حياتي بسبب العدوان الاسرائيلي وجرائمه ".
موقف القانون الدولي من استخدام الفسفور
وَفْقاً للقانون الدُّوَليّ يتم تنظيم استخدام الأسلحة الكيميائية بموجب اتفاقية حظر استحداث وإنتاج وتخزين واستخدام الأسلحة الكيميائية. وبموجب الاتفاقية لا تعدّ جميع الذخائر ذات الخصائص الكيميائية الضارة أسلحة كيميائية. وعلى الرغم من أن الفسفور الأبيض هو عامل كيميائي، فإنه لا يخضع لاتفاقية الأسلحة الكيميائية، ولكن بموجب القانون الدُّوَليّ الإنساني العرفي، إن استخدام الأسلحة أو أساليب الحرب الذي يتسبب بخسائر غير ضرورية أو معاناة مفرطة هو محظور تمامًا، والقانون الدُّوَليّ العرفي هو إطار قانوني يتم تطبيقه على جميع الدول. كما يتطلب القانون الدُّوَليّ الإنساني العرفي من الدول اتخاذ جميع الاحتياطات الممكنة لتجنب إلحاق الأذى بالمدنيين بسبب الأسلحة المحرقة. ومع ذلك، هو يستخدم في مختلف النزاعات، وتسبب ذخائر الفسفور الأبيض ضررًا مباشرًا وغير مباشر للمدنيين وممتلكاتهم نتيجة التفاعلات الكيميائية بين المادة والأوكسجين. ومن الجدير معرفته أنه في حين صادق لبنان على اتفاقية الأسلحة التقليدية المعينة، لا تزل إسرائيل واحدة من الدول القليلة التي لم تصادق على هذه الاتفاقية.
إضافة إلى ذلك، تخضع الأسلحة الحارقة للبروتوكول الثالث لاتفاقية الأسلحة التقليديّة. انضمّت فلسطين ولبنان لهذا البروتوكول، لكن إسرائيل ظلّت خارجه. يحظر البروتوكول الثالث استخدام الأسلحة الحارقة الملقاة جوا على "تجمّعات المدنيين"، لكن فيه ثغرتين كبيرتين:
من جهة أولى يقيّد البروتوكول استخدام بعض الأسلحة الحارقة التي تُطلق من الأرض، وليس كلها، ضدّ تجمّعات المدنيين، وهذا يشمل الضربات المدفعيّة بالفسفور الأبيض في غزّة. ومن جهة ثانية، يشمل تعريف البروتوكول للأسلحة الحارقة الأسلحة "المصمّمة أساسا" لإشعال النيران وإحراق الأشخاص، وبالتالي يُمكن القول إنه يستثني الذخائر متعدّدة الأغراض، مثل تلك التي تحتوي على الفسفور الأبيض إذا استُخدِمت كستائر دخانيّة، حتى لو كانت لها نفس الآثار الحارقة. أوصت هيومن رايتس ووتش والعديد من الدول الأعضاء في اتفاقيّة الأسلحة التقليديّة بسدّ هذه الثغرة وتشديد القيود المفروضة على استخدام الأسلحة الحارقة التي تُطلق من الأرض.
اسرائيل تستخدم الفسفور في جنوب لبنان:
بحسب منظمة هيومن رايتش ووتش قامت القوات الاسرائيلية باستخدام ذخائر الفسفور في 17 بلدة على الاقل في جنوب لبنان منذ أكتوبر 2023، خمس منها استخدمت فيها الذخائر المتفجرة جوًا بشكل غير قانوني فوق مناطق سكنية مأهولة وقد أثبتت ذلك الفيديوهات والصور التي تم التحقق منها .إن استخدام قنابل الفسفور الابيض في المناطق المأهولة بالسكان دفعت بالمواطنين إلى النزوح إلى أماكن أكثر أماناً لاسيما المناطق البعيدة عن الحدود إلا أن اسرائيل توسعت في الحرب و استهدفت في تاريخ 6 حزيران 2024 النبطية الفوقا، يحمر، زوطر و كفرمان بقنابل فسفورية للمرة الأولى منذ بداية الحرب .
إن استهداف اسرائيل لجنوب لبنان بالقنابل الفسفورية على مدار الشهور السابقة أثرَّ بشكل كبير على الامن الغذائي، الاراضي الزراعية واقتصاد المنطقة. وعلى الرغم من ان الدولة لم تستطع حتى الآن إجراء إحصاء نهائي لحجم الخسائر التي لحقت بالمزارع والاراضي الخصبة، إلا إنه وَفْقاً لـبيانات لوزارة الزراعة فإن عدد الحرائق الناتجة عن الاستهداف بالفوسفور الأبيض بلغت 683 بين حرائق صغيرة وكبيرة، وبلغت مساحة الأراضي المحروقة بالكامل أكثر من 2100 دونم، وأفادت الإحصاءات بأن مساحة الأراضي المتضررة وهي عبارة عن أراضي حرجية وزراعية وصلت إلى6000 دونم. والأشجار المستهدفة هي زيتون، صنوبر وسنديان. كما بلغت نسبة الأضرار بالمناطق الحرجية التي تحتوي على أشجار السنديان والملول والغار 55%، وأشجار زراعية وحمضيات 35%، وأعشاب 10%، والى نفوق 340 ألف طير، و970 رأس من الماشية، وتضرر91 خيمة زراعية، و310 قفير نحل، وتدمير كلي لمساحة 600 متر مربع لمستودع أعلاف، إضافة إلى استهداف 8 مزارع.
إن اثر القنابل الفسفورية طويل الأمد حيث أنها تحول التربة الخصبة إلى تربة عقيمة، بسبب أنّ المواد الموجودة في القذائف الفوسفورية "تعرّض التربة للتعرية والحرق، وتجرّدها من المواد العضوية والرطوبة الأساسية للزراعات البعلية المعتمدة جنوبًا كزراعة الزيتون ثم أن تربة المنطقة التي تعرّضت للقصف بالفوسفور سجّلت انخفاضًا في المياه بنسبة 13%، واحتراق 51% من المواد العضوية، وتحوّل لون التراب من البني الغامق إلى اللون الفاتح، وتغيّر شكله إلى كتل حجرية أكثر قساوة ما يمنع جذور النباتات من اختراقها بسهولة، إضافة إلى انخفاض نسبة المادة الفوسفورية الجيّدة في التربة التي يستفيد منها النبات.
الجدير بالذكر أن عدداً كبير من سكان المناطق الجنوبية في لبنان يعتمدون على القطاع الزراعي وصنع المواد الغذائية الطبيعية لاسيما المونة اللبنانية التي لطالما اشتهر بها أهالي جنوب لبنان، خاصة الزيتون في تأمين مصدر دخلهم، إلا أن الاعتداءات الاسرائيلية كبدت خسائر كبيرة على المدى القصير طويل حيث إن أهالي المنطقة خسروا أراضيهم الخصبة وبالتالي حرمت الاعتداءات الاسرائيلية الأحيال القادمة من التربة الخصبة التي لطالما كانت مصدر أمن غذائي لأهاليهم.
في النهاية إن لبنان يعاني من أزمة التغير المناخي التي تلحق ضرراً في المحاصيل الزراعية وتشكل تهديداً مستمراً للأمن الغذائي والسيادة الغذائية، مع ذلك يستمر العدوان الاسرائيلي في ممارسته المدمرة لمساعي وجهود اللبنانيين والمجتمع الدولي في التصدي لآثار التغير المناخي ويسعى دائماً لجعل الأراضي اللبنانية غير صالحة للحياة وعقيمة. وقد نجحت اسرائيل في الحاق الضرر المستدام بعدد من الأراضي الزراعية في جنوب لبنان والتي اصبحت عقيمة بعدما كانت مصدر رزق وغذاء لأجدادنا وأهالينا. هذا ما يتطلب جهود من المجتمع الدولي والسلطة المحلية لاتخاذ اجراءات قانونية بحق الحكومة الاسرائيلية وأفعالها الاجرامية التي تهدد حياة اللبنانيين وبيئتهم.