الاقتصاد السياسي القائم على تراكم الديون في لبنان
إعداد د. خليل جبارة
المقدّمة
يعاني لبنان من انهيار اقتصادي ومالي بات يُعرف بأنه أحد أشدّ الانهيارات العالميّة منذ منتصف القرن التاسع عشر. وقد شهد الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للبلاد انكماشًا وصلت نسبته إلى 40 بالمائة تقريبًا، مُشكّلًا بالتالي واحدةً من أسوأ حالات التدهور الاقتصادي التي حصلت في زمن السلم (البنك الدولي، 2025). كما وانخفضت قيمة اللّيرة اللّبنانيّة بنسبة تخطّت الـ98 بالمائة في الأسواق الموازية، ما أدّى إلى تراجع حادّ في القوّة الشرائيّة للسكّان ودفع بأكثر من نصفهم إلى ما دون خطّ الفقر (البنك الدولي، 2021؛ صندوق النقد الدولي، 2022). وتخلّفت الحكومة عن سداد سندات اليوروبوند للمرّة الأولى على الإطلاق في شهر مارس 2020، حيث أتت هذه الخطوة وفي ظلّ التضخم المفرط للأسعار وانتشار البطالة على نطاق واسع، بينما أصبح القطاع المصرفي معسّرًا عمليًّا (هوسمان وآخرون، 2020؛ صندوق النقد الدولي، 2022). وارتفع دين القطاع العام، بما في ذلك التزامات المصرف المركزي، ليتخطّى سبعة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي للبلاد (البنك الدولي، 2023). وبالتالي، يواجه لبنان في الوقت نفسه أزمة ديون سياديّة، وأزمةً مصرفيّةً، وأزمةً من حيث سعر صرف العملة، وانهيارًا اجتماعيًّا واقتصاديًّا شديدًا (لجنة الأمم المتحدة الاقتصاديّة والاجتماعيّة لغرب آسيا، 2022).
وعلى الرّغم الوضع المتردّي، يبقى الحلّ الشامل لهذه الأزمة بعيد المنال حتّى بعد مرور أربع سنوات على بدايتها، في حين نشهد على تزايد التكاليف بسبب الخسائر التي لحقت بالمداخيل، وتدهور الخدمات، وتفاقم المعاناة الإنسانيّة للسكّان (البنك الدولي، 2023).
تعرض هذه الورقة البحثيّة تحليلًا نقديًّا لتطوّر أزمة الديون السياديّة اللّبنانيّة منذ أوائل التسعينيّات وحتّى منتصف عام 2025. وتُظهر كيف ساهمت عوامل عدّة في حصول هذه الكارثة، بما في ذلك سوء الإدارة النقديّة والماليّة، ومكامن الضعف الهيكليّة، والخلل المؤسّسي. ويتتبّع التحليل المسار التاريخي لتراكم الديون منذ بداية عمليّة إعادة الإعمار التي تلت الحرب في العام 1992، حيث زاد اعتماد الاقتصاد اللبناني في تلك الفترة على تدفّق الأموال الأجنبية وتثبيت سعر صرف العملة بشكل صارم، كما يُحدّد الدور المركزي الذي للعجز المزدوج المّستمر في تفاقم حالة الهشاشة (مركز هارفارد للتنمية الدولية، 2022؛ منتدى البحوث الاقتصاديّة، 2021). ويتطرّق التحليل إلى السياسات الرئيسيّة التي كان لها دور في تفاقم المخاطر النظاميّة، مثل تثبيت سعر صرف العملة منذ العام 1997 وممارسات التي تبنّاها المصرف المركزي في سياق الهندسة الماليّة (صندوق النقد الدولي، 2022؛ هوسمان وآخرون، 2020). وقد شهدت البلاد إخفاقات أيضًا من حيث الحوكمة تشمل مثلًا المحسوبيّات الطائفيّة الراسخة، وسيطرة النخبة، ومقاومة للإصلاحات بشدّة، ما ساهم أيضًا في تفاقم هذه الاختلالات الاقتصاديّة (البنك الدولي، 2022؛ المركز العربي – واشنطن دي سي، 2023).
تغوص هذه الورقة البحثيّة في تفاصيل تركيبة الدين العام اللبناني وحاملو السندات، مقيّمةً المسارات التي من شأنها أن تؤدّي إلى استدامة الدين وتنفيذ الإصلاحات الماليّة والقطاعيّة والنقديّة في المستقبل. كما تهدف إلى تقديم توصيات مدعومة بالأدلّة فيما يتعلّق بالسياسات المطلوبة لتحقيق التعافي واستدامة الدين، مع مراعاة القدرات المؤسّسيّة المحدودة للبنان واقتصاده السياسي المُعقّد (البنك الدولي، 2025). ويُقدّم التحليل التالي قاعدة الأدلة لهذه الاستنتاجات عبر دراسة ما أوصل لبنان إلى هذه الأزمة خلال الفترة التي تلت الاستقلال، مع التركيز بشكل خاصّ على فترة ما بعد الحرب الأهلية (1992-2018)، وصولًا إلى مراجعة الانهيار الذي تشهده البلاد منذ العام 2019. وينتهي التحليل باستعراض للخطوات اللّازمة للمضي قدمًا.