Nov 11, 2020
احتجاجات العراق، مشاركة متنوعة وواسعة ثقافيًا وجغرافيًا وجندريًا


الحركة الاحتجاجية في تشرين الأول 2019، هي علامة فارقة في تاريخ العراق الحديث من حيث اتساعها الجغرافي وتنوعها الثقافي والفكري والجندري وطول أمدها، ووضوح المشاركة القوية للشباب ما دون الثلاثين عامًا. كان لقمع حملة الشهادات العليا أثناء احتجاجاتهم التي سبقت تشرين أثرا في التحاق العاطلين عن العمل من غير حملة الشهادات لها، ولاحقًا لإحساسهم بأن القادم سيكون اسوأ عليهم، وانضمت للحركة الاحتجاجية المجموعات الشبابية المعنية بالفن والثقافة، حتى أضحت كرنفالا شبابيًا وعائليًا. تميزت الحركة بالتضامن غير العادي من قبل الغالبية من العراقيين معها، وزاد من قوتها المشاركة اللافتة جدا من النساء وعلى مختلف المستويات والمساهمة الكبيرة جدا فيها أتت من طلبة وطالبات الجامعات مما اعطاها زخما لم يشهده العراق من أربعينات او خمسينات القرن الماضي. دفعت الاحتجاجات الحكومة لاحقا الى الاستقالة على الرغم من العنف المتعدد الأوجه الذي سلط على المتظاهرين والمتظاهرات من قتل بأشكال مختلفة واتهامات بالعمالة وترهيب وتخويف واختطاف وسجن. الاعتداءات خلفت إعاقات مختلفة على الشباب المشارك في هذه الاحتجاجات، والاحصائيات تتحدث عن حوالي 700 شهيد ومئات أخرى من المخطوفين والجرحى. وما يلاحظ اندلاع الاحتجاجات بعد موسم الصيف المصاحب لانقطاع طويل في الكهرباء، وهذا ما يؤكد تعدي المطالب لتحسين الخدمات ومن ضمنها الكهرباء الذي كان مطلبا هاما في التظاهرات السابقة.
 
 
 لماذا اندلعت الاحتجاجات؟
 
منذ الحرب العراقية الايرانية وبعدها الحصار، ومرحلة ما بعد 2003 وحتى الان، عانت الكثير من المناطق والمجموعات من التهميش والفقر وقلة الخدمات، وانعدام فرص العمل أمامها للعيش الكريم، في ظل ضعف القطاع الخاص، وعدم قدرة مؤسسات الدولة على تأمين استقرار في الرواتب وضمانات تقاعدية في ظل ترهل وعدم كفاءة في الأداء، وعدم قدرة على استيعاب جيش العاطلين عن العمل من الشباب الذي تصل نسبتهم الى اكثر من 40% في بعض المحافظات  |1|مقابل تمتع مجموعات صغيرة لم تملك مؤهلات علمية وثقافية ولا خبرات بخيرات البلد، هذه الخيرات التي ينظر اليها عموم العراقيين بأنها من بين الأكثر في العالم والتي لو استغلت بطريقة صحيحة وتم توزيعها والاستفادة منها وإدارتها بشكل عادل، لغيرت حياة غالبية العراقيين وآمنت مستقبلهم.
 
وجود أرث ثقافي وانفتاح العراقيين على العالم بعد 2003 زاد من المطالبة بالحريات العامة ومنها حرية التعبير والحق بالتجمع، مع أهمية التمتع بالحقوق الاساسية للمواطنين. هذه المطالب لم تلق اهتماما من قبل الحكومة وحتى مجلس النواب، بل حاولت من زيادة الضغط والقمع، ومن اوائل الحركات الواضحة في التاريخ الحديث، كانت حركة (بغداد ليست قندهار)، والتي اندلعت إثر توجه الحكومة، وخاصة مجلس محافظة بغداد لتضييق الحريات.
 
فشلت دولة المكونات، حيث تركزت السلطة والأموال والامتيازات بأيدي مجموعات صغيرة ادعت تمثيل المكونات الثقافية والفكرية والدينية والاثنية في العراق، وما لحقه من تشكيل هذه المجموعات المتنفذة الى اذرع اقتصادية وعسكرية واعلامية خاصة بها للسيطرة أكبر على المجتمع، وتفشي الفساد والمحسوبية وضعف كبير في توفير الأمن الإنساني للمواطنين، ما ادى الى انسداد الافق امام العراقيين بتغيير قريب وطبيعي من الداخل، وهو ما دفع الى المحتجين الى رفض قاطع للأحزاب، وحتى ان المجموعات المهمشة والعاطلين عن العمل المشاركين في التظاهرات رفضوا اي حزب بما فيها الاحزاب المعرّضة للقمع أو التهميش.
 
انخراط المجموعات الشبابية التطوعية والفاعلة في المجتمع المدني في الاحتجاجات كان لافتًا، وخاصة تلك التي تدعو لسلمية الاحتجاجات، وهذا ما البس التظاهرات ثوبا جديدا، فامتزجت الثقافة والفن بكل الأشكال مع الاحتجاجات، حتى ان معارض فنية وعروض مسرحية وغنائية ومعرض للكتاب كانت موجودة في الساحات، ولا نغفل سباق للدراجات والماراثون التي تم تنظيمها ضمن فعاليات الاحتجاجات. هذه النشاطات ساهمت في زيادة الزخم الشبابي وحتى العائلي فيها وخاصة في الأسابيع الاولى منها.
 
نريد وطن، كان الشعار الرئيسي للاحتجاجات، وهذا ما أكد الهوية الموحدة لها، شكل هذا الشعار رفضا للمحاصصة بكل اشكالها، وما نتج عنها من فساد سياسي ومالي وغيره.
 
مشاركة واسعة من مجموعات لم يسبق لها التظاهر والاحتجاج، او لم تشارك بكثافة سابقا، كالنقابات وطلبة الجامعات وحتى المدارس ومجموعات العاطلين عن العمل ممن لم يحصلوا على شهادات دراسية عليا، وحتى من ضعيفي القراءة والكتابة، كما شاركت عوائل من خلفيات ثقافية وفكرية ودينية مختلفة بشكل مباشر او غير مباشر عبر الدعم اللوجستي والمالي وخدمات متنوعة كالطعام والماء والادوية والمواد الأخرى. شارك الطاقم الطبي الذي ابلى بلاءً حسنًا في مساعدة جرحى الاحتجاجات كما شاركت نقابتي المحامين والمعلمين التي كانت مشاركتهم غاية في الاهمية وغيرهم الكثير مثل الاعلاميين والفنانين. يمكن القول ان بعض ابناء وبنات بعض المسؤولين الحكوميين شاركوا فيها بطرق مختلفة مباشرة وغير مباشرة.  كما حصلت الاحتجاجات على تضامن دعم مختلف من قبل الشباب والشابات في المحافظات التي لم تشهد احتجاجات واسعة. ومن المهم الاشارة الى ان التحشيد للاحتجاجات والترويج لها وتنسيق بعض مجاميعها تمت عبر الاستخدام الجيد والمتنوع لوسائل التواصل الاجتماعي، ومن المثير للانتباه أن بعض المجموعات استخدمت الألعاب الالكترونية كأدوات للتمويه والتجمع والالتفاف على بعض توجهات القوات القمعية، والطريف سمي البعض منهم بأنها احتجاجات لاعبي (البوبجي)، وهي لعبة إلكترونية تمارس بانتشار واسع بين أوساط الشباب في العراق.
 
المشاركة العالية للنساء، أكدت على قدرة مجموعات نسائية مختلفة على زعزعة مسلمات تبعية وهامشية النساء في المجتمع، وعقود من التجاهل لقدراتهن في الحياة العامة، وأثبتن إمكانية على مواجهة تحديات مختلفة يتعرضن لها كونهن من النساء. ومشاركة هذه المجموعات النسائية حفزت نساء أخريات على المشاركة في الاحتجاجات كجزء أساسي في رسم دور مستقبلي افضل واكبر للنساء في الحياة العامة. ورأينا مشاركة أوسع للنساء في فضاء التواصل الاجتماعي.
 
التنسيق بين مختلف القطاعات والمحافظات لتنظيمهاِ، ساهم في ديمومتها وتطور مطالبها، وحفز مجموعات منهم وحتى الشبابية لزيادة مشاركتهم في الشأن السياسي، والقيام بحملات لمراجعة قوانين الانتخابات والحريات العامة، وجعل من ظهورهم الإعلامي حدثا اعتياديا وفاعلا بعد أن كان هامشيا. وتطورت مطالباتهم لتشمل وقف العنف ضد المرأة، وضرورة تشريع قانون للحد من العنف الأسري، وقوانين وسياسات أخرى.
 
صمدت الاحتجاجات بوجه التحالف غير المعلن بين القوات النظامية وغير النظامية (بعض المجموعات المسلحة الشيعية)، لقمع الاحتجاجات من خلال القتل والخطف والتهديد وبقيت صامدة ومؤثرة في الفضاء العام بشكل كبير، حتى أضحت مجموعة من قياداتها قادرة على التفاوض ولا يمكن تجاهلها، وعلى الآخرين سماعهم.
 
عدم وجود قيادات متفق عليها للاحتجاجات واختراقها من قبل احزاب وتحالفات السلطة جعل مطالبها السياسية والاقتصادية غير مدروسة بشكل عميق، وإن دفعت الحكومة للاستقالة الا انها لم تستطيع تغيير كبير في العملية السياسية.
 
وهنا نستطيع القول، إن المشاركة الواسعة في الاحتجاجات ولدت ثقافة المطالبة بالحقوق والحريات، والمطالبة بتحسين الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للعراق، وقدرة المجتمع المدني في بناء ثقافة حقوقية سلمية، مؤثرة في محيطها، كما بنت قدرات المجموعات الشبابية التطوعية بشكل مباشر وغير مباشر في التأثير السلمي النوعي والمطلبي في هذا الحراك.
 
وعلى الرغم من فض الاعتصام في ساحة التحرير في بغداد يوم 29 تشرين الاول 2020، وما سببه من خذلان لمجموعات من الشباب، نتيجة بقاء القيادات التي تم التظاهر لإزاحتها في السلطة وبقاء تأثيرها الكبير على الحكومة دون استعادة هيبتها وسلطتها التي تضعضعت، تشكل وعيا سياسيا مهما لدى مجموعات شبابية اخرى، وتوسعت المطالبة بمشاركة أوسع للشباب في العملية السياسية، واضطر مجلس النواب الى تخفيض سن الترشح للانتخابات الى 28 سنة بدلا من 30 بعد ان كانت المطالبة للوصول الى 25 سنة. وحققت الاحتجاجات قدرا عاليا من التنسيق فيما بين مجموعات واوجدت أشكالا مختلفة ومبدعة للاحتجاج شجعت لمشاركة أوسع فيها.
 
جمال الجواهري - المدير التنفيذي لجمعية الامل العراقية
 
 [1]"الاعلان عن نسبة مهولة للبطالة في العراق"، قناة العالم، الثلاثاء ٣ أيلول / سبتمبر ٢٠١٩، https://bit.ly/3jH2qAw



احدث المنشورات
Mar 27, 2024
تاريخ من المرض الهولندي: هل يستطيع لبنان التغلب عليه؟
Mar 22, 2024
ملحق لاستراتيجية شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية 2024-2025